كتاب الرائ

عبدالرحيم الكيب لن يغادر تاريخنا

يونس شعبان الفنادي

[email protected]
(لقد انتهى العهدُ الذي يغادرُ فيه الحاكمُ منفياً أو مقتولاً)
هذه الكلمات القصيرة كانت آخر تصريح صحفي رسمي للمرحوم الدكتور عبدالرحيم الكيب أول ليبي منتخب لرئاسة الحكومة الوزارية بعد 17 فبراير 2011م، أدلى به للصحفي القدير عماد العلام رئيس تحرير جريدة (ليبيا) وهو يسلم منصب رئاسة الوزارء بطرابلس، لخلفه الأستاذ علي زيدان، ويودعه خارج مكتبه الرسمي بالمبنى الحكومي، ليترجل ماشياً ثم راكباً سيارته الخاصة، ومغادراً وسط حشود من المسؤولين والجماهير المبتهجين بفرحة انتصار عملية التداول السلمي للسلطة لأول مرة في تاريخ ليبيا الحديث والمعاصر، والتي دفع الليبيون في سبيلها ثمناً باهضاً وتضحيات جساماً، بعد عقود من الفوضى الشعبوية الجماهيرية والديكتاتورية العسكرية المقيتة.received 295705184753171 admin

كانت الجماهير المصطفة على جانبي مدخل مبنى رئاسة الوزراء الليبية تردد هاتفة من أعماقها بالمجد والخلود لليبيا وهي تصفق بكل مشاعرها الحارة الصادقة للحظة التاريخية المميزة، وتلوح بيديها ودموع عيونها تتهاطل صامتةً، محييةً معالي رئيس الوزراء المغادر الدكتور عبدالرحيم الكيب، وتشكره بكل الغبطة والفرح الذي اعتمر قلوب الحاكم والمحكومين معاً، إيماناً بأن تضحيات الليبين لم تذهب سدى، وأن عهداً جديداً في ليبيا سجله الأوفياء الخلص، المحبون الحقيقيون للوطن، يسطر صفحات جديدة مبهرة لا عهد للماضي السياسي في ليبيا بها.

إن مشهد هذه الصورة الوطنية الرائعة بكل عناصرها الزمنية والمكانية والسياسية، التي التقطتها عدسة المصور الفنان صبري المهيدوي، يمثل لحظة فارقة في تاريخ ليبيا السياسي، سوف لن تغيب أبداً عن أحداثنا الوطنية كافةً، وسنظل نتمثلها ونستحضرها كلما استذكرنا الأسس التي نسجت مجريات وصولنا لتلك المرحلة السياسية المتقدمة الباكرة بكل ظروفها وملابساتها، ومن دلالاتها العميقة، لابد من استلهام الكثير من العبر والدروس والملاحظات التي يمكن تسجيلها حول عدم استطاعتنا إتمامها وإنجاحها لاحقاً في مشهدنا السياسي الوطني، الذي للأسف انتكس سريعاً، وأدخل البلاد في أنفاق فوضى ونزاعات مسلحة دامية لم تتوقف.received 240996266973590 admin

إنّ شخصية الفقيد الراحل الدكتور عبدالرحيم الكيب الودودة والاجتماعية المتأسسة على العلم والممتلئة بالتواضع والمحبة لمكونات هذا الوطن كافة، والتعايش مع جميع ظروفه الحياتية، وتحلي الفقيد الراحل بروح المشاركة الوجدانية الإنسانية المحبة والمتعاطفة مع الناس، والتي من خلالها دأب على حضور العديد من المناسبات الخاصة والعامة، غيّرت الصورة النمطية السلبية للمسئول السياسي الليبي، ونقله من ذاك الشخص المتعالي والمتكبر على الناس والانتهازي الطاعن في ممارسات الفساد المشينة، إلى مرتبة وطّنت صورة إيجابية جميلة مكتظة بالمحبة والعشق للحياة البسيطة، والانتماء الصادق للوطن والمدينة ورفاق العمر في الدراسة والشارع والحي والمدينة، وهو ما تبعثه لنا صورته جالساً، بعد أن خلع عباءة رئاسة الوزراء، في إحدى المساءات الصيفية على (ركابة) جامع ميزران الشهيرة بقلب مدينة طرابلس رفقة عددٍ من رفاق عمره وجيرانه.

كما أن صورته، بعد أن خلع عباءة رئاسة الوزراء، كذلك، وهو يكابد نفس معاناة الناس البسطاء والوقوف معهم لساعاتٍ عديدة في طوابير طويلة للتزود بالوقود، ليصل أمام آلة التعبئة مشمراً ذراعيه، وماسكاً بيده خرطوم “البنزين” والقيام شخصياً بمهمة التعبئة، تقدم لنا الوجه الحقيقي لإنسانية الرجل السياسي النزيه الذي يشارك الآخرين كل ظروف معيشتهم، ويشاطرهم أوقاتهم العصيبة، ولا يتخلى عنهم أوقات المحن والأزمات والشدائد.
لن يسع المقام هنا للحديث عن مناقب الفقيد الراحل وخصاله الحميدة، ومشاركاته في المناشط الفكرية والثقافية سواء حضوره فعاليات الجمعية الليبية للآداب والفنون التي كانت تنتظم بدار الفقيه حسن، أو منتدى المناضل بشير السعداوي الثقافي، أو صالون الشاعر عبدالمولى البغدادي، أو الاحتفاء بالشاعر عبدالحميد بطاو حين استضافته طرابلس قادماً من مدينة درنة الحبيبة، أو المشاركة في الاحتفاء بالفنان العالمي والمذيع ابن مدينة بنغازي الحبيبية الأستاذ علي أحمد سالم في يوم اللغة العربية حين استضافته كلية الدعوة الاسلامية بطرابلس، أو حضور فعاليات احتفاليات اليوم العالمي للكتاب التي أقامتها مكتبة طرابلس العلمية العالمية، أو دعوته للدكتور فوزي الحداد أحد أساتذة الأدب بجامعة طبرق والناشطين السياسيين لحضور إحدى فاعليات صالون لقاءات الوحدة الوطنية في بيته والمشاركة فيه، حين علم بتواجده بمدينة طرابلس، وغيرها كثير من المناسبات والمناشط.

إن هذا الحضور البهي للفقيد الراحل عبدالرحيم الكيب يعكس الكثير من حقيقة خصال شخصيته المحترمة وفكره الثاقب، وسمو خلقه، ورفعة أدبه، ويفند العديد من الاتهامات التي قيلت في حقه إبآن توليه رئاسة الوزراء. فلا أظن أن سياسياً بهذا الخلق النبيل، وشبكة العلاقات الكبيرة الواسعة مع شرائح الطيبين البسطاء من المجتمع، والذي يجسده الحضور الإنساني الدائم لشخصه الكريم بينهم، قد يدير يوماً ظهره لهم ويخذلهم، لأن صوره الظاهرة ومواقفه المسجلة والمعروفة للجميع لا تستجيب وفقاً لأحكام المنطق لسوء الظن هذا، كما أن زهده في معيشة هانئة، وحياة بسيطة، جعله – رحمه الله – يبتعد كلياً عن كل أبواب النهب والمفاسد التي كانت مشرعة أمامه في تلك الفترة العصيبة من تاريخ ليبيا السياسي.

إن كل هذه الشواهد المثبتة تؤكد أن الدكتور عبدالرحيم الكيب رحمه الله، وإن غادر هذه الحياة الفانية، فإنه لن يغادر صفحات تاريخنا الوطني السياسي وكذلك الاجتماعي، بفعل حضوره الودي اللافت، الذي جعله متميزاً عن غيره من السياسيين الليبيين، الذين اختاروا إما الانزواء بشكل متعالي في بيوتهم وعدم التفاعل مع الوسط الشعبي، أو مغادرة الوطن للعيش في المنافي الاختيارية التي ارتضوها لأنفسهم، ربما خوفاً من تصفية حسابات شخصية مع بعض أطراف الصراعات السياسية أو الايديولوجية أو الاستمتاع بغنائم الأموال التي نهبوها أثناء تقلدهم المناصب السياسية العليا أو غيرها. ولكن لأن أول رئيس وزراء ليبي منتخب بعد فبراير 2011م المرحوم عبدالرحيم الكيب كان نظيف اليد، ونقي السريرة، وناصع المحبة للجميع فقد ظل هنا في وطنه ليبيا، لم يتركه أو يهرب خارجه، معززاً مكرماً بين أهله وأصدقاءه وخلانه ورفاق مسيرة حياته، حتى غادرهم للعلاج ولاحقاً لمثواه الأخير حين وافاه الأجل المحتوم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى