النظام الصحي بين التهالك والتجديد

لا يمكن لأي نظام صحي أن يمتلك الفاعلية أو العدالة أو القدرة على تحقيق التغطية الصحية الشاملة ، أو بلوغ المؤشرات الدولية في ظل بنية تحتية صحية متهالكة ومتقادمة ، لا تواكب إيقاع الحياة المتغير ولا تستجيب لتطلعات الناس المتسارعة ، فكيف لنظام يعاني من ضعف الهياكل الأساسية ، ورداءة المرافق ، وغياب التجهيزات التقنية والطبية الحديثة أن يكون قادرا على الاستجابة أو الجاهزية لمواجهة الأوبئة ، والكوارث الصحية والطبيعية ، والحوادث والصراعات التي تضرب المجتمعات من حين لآخر؟ ، إن الفجوة الكبرى ليست في الموارد فقط ، بل في الفكر الصحي والتخطيط والإدارة ، حيث بقيت منظوماتنا تعمل بعقلية الماضي في زمن تتقدمه الرقمنة والذكاء الاصطناعي والسجلات الإلكترونية والأنظمة الذكية ، وبينما يسير العالم نحو الطب التنبؤي ، والاستشفاء الرقمي ، والتعليم الطبي المدمج ، ما زالت بعض مؤسساتنا تفتقر إلى أبسط مقومات العمل الطبي المنظم ، والقوى العاملة الصحية وهي عصب أي نظام صحي ، تعاني من ضعف الكفاءات وشح التدريب وغياب التأهيل المستمر، مع مخرجات تعليمية لا تواكب التطورات العلمية أو الاحتياجات الفعلية للميدان . فكليات الطب والتمريض والفنيين الصحيين تحتاج إلى إعادة بناء حقيقية بمناهج تفاعلية ، ومختبرات تعليمية رقمية ، ومستشفيات جامعية تعليمية حديثة تدمج بين المعرفة والممارسة وبين العلم والإنسان ، ولا يمكن للنظام الصحي أن ينهض من دون قيادات مؤهلة في الإدارة والتخطيط والاقتصاد الصحي والتمويل والجودة وسلامة المرضى ، ولا بوجود تمريض يفتقر للتأهيل العلمي والعملي ، أو خريجين من معاهد متوسطة ودورات منزلية لا تمنح الحد الأدنى من الكفاءة المهنية ، أما التعليم الطبي العالي ، فقد تراجع حتى أصبح غائبا عن جوهر مهمته بتخريج أطباء متخصصين مؤهلين ، وامتلأت الساحة ببرامج تجارية وخاصة ، تُشترى فيها الشهادات بالمال ، وبرامج عامة أكثر سوءًا ، بلا مناهج أو تدريب سريري أو مستشفيات تعليمية ، في حين يتحمل الأطباء الشبان كلفة باهظة بلا مردود علمي أو مهني حقيقي ، ويتفاقم هذا الواقع في ظل تشظي الهياكل الصحية ، وتعدد الأجسام الموازية ، وغياب التنسيق ، واستمرار تضارب المصالح والجمع بين العمل العام والخاص ، مع إنفاق غير رشيد ، وضعف في الحوكمة والشفافية والمساءلة ، وموازنات هزيلة لا تصل حتى الى15% من الدخل القومي ، في بيئة مثقلة بالفساد الإداري والمالي ، إن الخروج من هذا النفق المظلم لا يكون بالشعارات أو المسكنات ، بل بمعالجة جذرية شاملة تبدأ من إصلاح البنية التحتية ، وتحديث التعليم الطبي ، وتمكين الكوادر ، وتأهيل القيادات ، وتطبيق الحوكمة والشفافية والمساءلة ، إلى جانب رفع مخصصات الصحة بما يتناسب مع حجم التحديات ، فلا صحة بلا بيئة صحية ، ولا نظام صحي قوي دون إنسان يعيش في أوضاع معيشية وبيئية سليمة تحفظ كرامته ، وتضمن له الأمن الصحي والاجتماعي ، وتعيد الثقة بين المواطن والدولة ، وبين المريض والطبيب ، وبين العلم والضمير .
د.علي المبروك أبوقرين





