كتاب الرائ

التعليم الطبي بين الأمس واليوم !

بقلم: د.علي المبروك ابوقرين

عاش أجدادنا أزمان عصيبة بدءًا من حكم عثماني متخلف قاسي ومدمر أعاد الجاهلية بكل صورها
الجهل والتخلف ولا علم ولا صحة .
وتلاه حكم استعماري فاشي إيطاليًا بغيض .
بنى لرعاياه ما كان يعتقد أنهم باقون الى الأبد وأستفاد البعض لمن كانت الحاجة لهم من أهل البلاد الليبيون ببعض الخدمات التعليمية المتواضعة جدأ ، والصحية البدائية .
الأطباء طليان وجنسيات أخرى لرعاياهم ، والفيرمرية ( التمريض) منا ولنا وكانوا على قدر عالي من الانسانية والخبرة والعطاء الغير محدود وكنا نناديهم ونلقيهم بالطبيب وعلى قلة أعدادهم وإمكانياتهم قدموا المساعدة القصوى لمن أحتاج لها ، وكانوا عونا لبني وطنهم وجلدتهم ..
والشكر والتقدير لهم ورحمة الله عليهم ..
بهم اقتدينا ونفتخر بما قدموا .
وخسر الطليان حربهم وأنتصر الانجليز ، وحكم المنتصر آرض ليست أرضه وشعب لا من أصله ولا من دينه يعيش بدراعه وعرق جبينه على أرض وطنه يأكل من طينه ..
العثماني والطلياني والانجلوسكسوني حرموا الليبيون من العلم ومنعوهم من الدواء ، وقضى على نصفهم الجذري والطاعون وكل أنواع الداء ،
وحارب وناضل الأجداد من أجل البقاء ، وهاجر من ضاقت به الحياة ، وكلهم سعوا ولبوا النداء في بناء وطن للأبناء ، ونالوا استقلالًا صنعوه الأوفياء .
وبنيت المدارس ، وساعد بالمناهج والمعلمين الأخوة العرب الاشقاء . وتسابق جيل بعد جيل على العلم والمعرفة ، وزال الجهل والأمية ، وتعلم الرجال والنساء ، وشيدت المستشفيات والمراكز الطبية والمستوصفات في كل المدن والقرى ، وأنشئت لعلوم الطب والصيدلة الكليات ، واسُتجلبت الكوادر المؤهلة للتعليم الطبي من أرقى الجامعات العالمية للعلوم الطبية الاساسية والسريرية ، وممتحنين من أكبر الأساتذة الأكاديميين من الجامعات العربية والأجنبية ، وتخرج الالاف من الأطباء والصيادلة الليبين من الجامعات المرموقة في مصر وبريطانيا والمانيا وفرنسا وايطاليا وكندا وامريكا والسويد والنمسا وايرلندا ، ودول أخرى متقدمة في التعليم والتدريب الطبي والصحي ، وشهد القطاع الصحي نهضة وسجل معدلات عالية في المؤشرات الصحية التي نافست الدول المتقدمة ..
وللأسف ونظرًا للسياسات الخاطئة والإجراءات التي اتخدت بعد ذلك تراجع التعليم الطبي في البلاد وقل عدد المبعوثين للدراسات العليًا للحصول علي إجازات التخصص الأكاديمية والمهنية ، واعتمدت الإدارات المسؤولة حينها على توطين التعليم والتدريب دون الالتزام بالمعايير الدولية المعتمدة ، ودفع الآلاف من الأطباء الشبان ثمن هذه الإجراءات الغير صائبة .
في الوقت الذي لم تتأهل فيه الكليات الطبية للانخراط في برامج الدراسات العليا ، ولعدم وضوح العلاقة العلمية والمهنية والإدارية والمالية بين التعليم العالي الذي تتبعه الجامعات والكليات الطبية التابعة لها ، وقطاع الصحة المسؤول عن المستشفيات والمرافق الصحية التابعة له .
وانعدام وجود هيكلية تُعنى بهذا العمل العلمي والأكاديمي ، والبحثي والخدمي ، الذي يحتاج لتشريعات وقوانين وإستراتيجيات ، وبرامج وخطط ومناهج وسياسات وإجراءات تحقق التعليم والتدريب الطبي الاساسي والسريري والبحثي والاكاديمي والمهني التخصصي ، وبناء المهارات الفنية ، والتكامل في الخدمات الصحية الشاملة ، مع غياب تام للخطط الاستراتيجية الكاملة التي تحدد الاحتياجات من القوى البشرية أعداد وتخصصات مختلفة ، ومهارات وكفاءات لكل مستويات الخدمات الصحية التي تحقق النظام الصحي المطلوب والقادر على الاستجابة بمرونة وتكيف ، ويحقق التغطية الصحية الشاملة ببنى تحتية عصرية متطورة ، وقوى عاملة مؤهلة وكافية ، وهذا لا يتأتى في هذه الظروف التعليمية السيئة التي آلت اليها منظومة التعليم والتدريب الطبي والصحي ، ودفع ثمنها الأجيال الواعدة التي تشع موهبة ورغبة وتطلع لأن يكونوا علماء في الطب والصيدلة والعلوم الطبية والصحية ..
إن الخاسر الأكبر هو المواطن والمجتمع والدولة ..
والأجيال الجديدة الآن من الأطباء وأطباء الاسنان والصيادلة يضيع حلمهم من اليوم الأول لانخراطهم في دراسة الطبيبات في كليات تنعدم فيها أدنى المتطلبات لدراسة العلوم الطبية ( مثل المدرجات المجهزة والمتعددة ، والقاعات الخاصة بالمجموعات الدراسية المختلفة ، والمعامل المتكاملة المتطورة والمكتبات الحديثة والتقنية والتكنولوجيا والمحاكاة والمناهج والبرامج التعليمية والتدريبية المتطورة في العلوم الأساسية والسريرية ، مع النقص الحاد في أعضاء هيئة التدريس وغياب التراتبية العلمية من اصغر درجة الى اعلاها ) ..
وبعد التخرج يصطدم الخريجون بيروقراطية التعيين والأبواب الموصدة أمامهم ، بعد كل العناء والشقاء الذي عاشه الأهل وأبنائهم وبناتهم طيلة سنوات الدراسة ، وتبداء رحلة المعاناة الحقيقية للأطباء الشبان في الحصول على الوظيفة واللجوء للعقود كأنهم عمالة وافدة ، أو موسمية ولا أمكانية متاحة للانخراط في الدراسات العليا في التخصصات لا ألاكاديمية ولا المهنية الا ما صنعه لهم ورثة الطب الذين جعلوه منظومة إقتصادية تدر عليهم المكاسب ، ويتخبط الأطباء الشبان في ظل الفوضى ، لا تعيين ولا مرتبات ولا مستشفيات تعليمية حقيقية ،
ولا ابتعاث للخارج ، ولا تعليم راقي ومتقدم في الداخل .
ضاع حلمهم في واقع صحي مرير وقطاع منهار ، وعليهم مجاراة السياسات القائمة التي تحقق رغبات الاقتصاد الحر الذي حول الخدمات الصحية والتعليم والتدريب الطبي والصحي لمنظومات اقتصادية ربحية والكل متاح بمقابل بعناوين وشعارات مختلفةً محلية وعربية ودولية ، ولا علاقة بين الشعار والمحتوى ..
اسواق تتنافس على التربح المادي والطب لم يعد رسالة إنسانية ولا خدمات اساسية ، بل صار منظومة اقتصادية ربحية ، وللمقتدر حق التعلم بقدر ما يستطيع والكل متاح بثمنه ، وكذلك الخدمات الصحية للقادر بالكاش أو البطاقة البنكية أو التأمينية ، وجميعهم سواء في الفكرة والفلسفة والمضمون والنتيجة ..
والسواد الأعظم تتراجع أمامه الآمال والطموحات في التعليم والعلاج .. ونسى راسم السياسات وواضع الإستراتيجيات أنه وصل برأسمال الطموح فقط . وإن عاد به الزمان بشروط اليوم لا كان له لا علم ولا دواء ، وعليه أن يتذكر الحقب العثمانية والفاشية والانجلوسكسونية .
وكانيفا والكروتشا روسو والسوريلات وحملات اليونسيف والعوايا والتراكوما والسل والكوليرا ، واين ولد وكيف ولد والطهار وحجابات الفقي . ولنا في التاريخ عبرة وفي أحوال غيرنا دروس .
ليبيا دولة غنية وتحتاج لعشرات الآلاف من الأطباء المهرة والكفاءات العالية وبناتها وأبنائها قادرون ..
يجب ان تتاح لهم الفرص العظيمة للتعلم في جامعات ترقى لمستوى العالمية وتتاح لهم فرص التدريب بمستشفيات ومراكز جامعية متقدمة وفق المعايير الدولية ، ويتحصلوا على شهادات من أعلى المراتب الجامعية ، وأن يتم التعيين يوم التخرج ، والبدء في مشوار التخصص يوم استلام العمل ، في بيئة عمل تحقق الرضى التام للطبيب والمرضى ، ويجب ترسيخ الطب رسالة انسانية والتعليم أساس بناءً الأمم والحضارات ..
والعلم والصحة في بلاد مثل ليبيا يجب أن يكون خارج منظومات السوق والمتاجرة .
والمكسب المرجو والمنشود هو العافية والرفاه والسعادة والامل المتجدد للأمة وأجيالها ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى