“أثيري”.. مريم الصيد تحوّل الفضاء إلى طاقة لونية في دار الفنون بطرابلس

في فضاء تتداخل فيه الألوان مع الروح، وتتمازج الخطوط مع البصيرة، افتُتح مساء السبت الموافق 4 أكتوبر 2025م، بدار الفنون في طرابلس، المعرض الفردي الأول للفنانة التشكيلية مريم الصيد تحت عنوان “أثيري الفنون طرابلس“، وسط حضور لافت من الفنانين التشكيليين، وأساتذة الفنون بالجامعات الليبية، وعدد من المهتمين والنقاد والإعلاميين.
يمتد المعرض لأسبوع كامل، ويُعدّ محطة جديدة في المشهد التشكيلي الليبي، لما حمله من عمق روحي وطرح بصري متفرد يجمع بين التجريد والتعبير الإنساني.

بين الأثير والإنسان.. فلسفة اللون والضوء
العنوان الذي اختارته الفنانة لمعرضها، “أثيري”، ليس مجرد تسمية شاعرية، بل مفتاح تأويلي لرحلة فكرية وروحية تسعى فيها الصيد إلى اكتشاف العلاقة بين الإنسان والطاقة الكونية المحيطة به.
فالأثير، كما عُرف في الفلسفات القديمة، هو الجوهر الخفي الذي يملأ الفضاء، المادة النورانية التي تربط الكائن بالمطلق.
ومن هذا المنطلق، تُقدّم الفنانة أعمالها كنافذة على “الهالة” التي تحيط بالجسد، وتعبّر عن حالات الإنسان النفسية والعاطفية، في محاولة لتجسيد ما لا يُرى، وإضاءة ما يسكن الداخل.
تقول الفنانة في حديثها عن المعرض:
«الأثيري هو الجسم الدقيق الذي يتفاعل مع المشاعر، ويعبّر عن الطاقة الأولى في الكائن البشري، تلك الطاقة التي تتبدّل بين الحزن والفرح، بين الصمت والبوح، بين الوجود والعدم».
ومن خلال هذا المفهوم، تبدو لوحاتها وكأنها تمارين على الروح، تجسّد حالات وجدانية عبر مساحات لونية مشبعة بالصفاء والتوتر في آنٍ واحد.
تجريد يلامس التعبير.. لغة اللون في “أثيري”
يميل معظم أعمال مريم الصيد في هذا المعرض إلى التجريدية التعبيرية، حيث يصبح اللون هو اللغة الأولى، والخط هو الهمس الداخلي الذي يُكمل الحوار بين الشكل والفراغ.
تستخدم خامات متنوعة، وتتحرّك بحرية بين الأكريليك والزيت والمواد المختلطة، ما يمنح السطح التشكيلي بعدًا بصريًا حيًّا ينبض بالحركة.
تتدرج الألوان بين الأزرق المائل للغموض، والأصفر الذهبي الذي ترمز به إلى “الهالة” التي تحيط بالإنسان، بينما تتخللها خطوط دقيقة ترمز للطاقة والتواصل.
في بعض الأعمال، يبرز الشكل الإنساني مجرّدًا من الملامح، لكنه يحتفظ بإيقاع جسدي يوحي بالانبعاث، وكأن اللوحة تنبض بذكرى من عالم آخر.
لا تسعى الصيد إلى محاكاة الواقع، بل إلى ترجمته طاقيًا؛ فكل لون عندها يحمل طاقة، وكل مساحة تمثل حالة روحية.
إنها لا ترسم الأشخاص، بل ترسم ما حولهم من ضوءٍ داخلي.
رحلة فنية بين التعليم والتجربة
ولدت الفنانة مريم الصيد في موسكو، من أم روسية وأب ليبي، ما منحها منذ البداية ازدواجًا ثقافيًا انعكس لاحقًا في أعمالها بين الانضباط الأكاديمي الروسي والخيال التعبيري الشرقي.
درست التصميم والزخرفة في كلية الفنون والإعلام بجامعة طرابلس، وتخرجت عام 1998م، لتبدأ مسيرتها الفنية والتعليمية بخطوات ثابتة.
بين عامي 2000 و2003، عملت معلمة لمادة التربية الفنية في مدارس خاصة، ونظّمت معارض فنية للأطفال، مما أتاح لها فرصة فهم الفن كوسيلة للتعبير والشفاء النفسي، وليس كمجرد تقنية.
لاحقًا، عملت مترجمة للغة الروسية في عدة مؤسسات طبية، وهو ما أضاف إلى تجربتها بعدًا إنسانيًا ومعرفيًا جديدًا، قبل أن تعود بكامل شغفها إلى مجال الفن والدراسة الأكاديمية.
عام 2014، التحقت بالدراسات العليا في الأكاديمية الليبية للفنون، لتتعمق في الفنون التشكيلية من منظور فلسفي وجمالي، ثم نالت درجة الماجستير في الفنون التشكيلية عام 2018م.
ومنذ 2020، تشغل منصب عضو هيئة تدريس بكلية الفنون والتصميم بجامعة طرابلس، إضافة إلى تكليفها عام 2022 بمنصب منسق شعبة التصميم الإعلاني.
بين المحلي والعالمي.. حضور متصاعد
لم تقتصر تجربة مريم الصيد على الساحة المحلية، بل عبرت بجدارة إلى الفضاء الدولي.
شاركت في معارض ومهرجانات فنية متعددة داخل ليبيا وخارجها، منها:
- معرض “روافد” بدار الفنون (طرابلس، 2002).
- مهرجان “قيروان” للفنون بتونس (2019).
- معرض “Acts” الدولي – نيويورك (2021) عبر منصة آرتسي.
- مهرجان “Diamond La” في موناكو (فرنسا، 2023).
- معرض “ازدهار” و”نسيج” (طرابلس 2021–2022).
- معرض “دارين” بدار حسن الفقيه (2023).
كما شاركت في كتالوج “أمواج” الفني الذي جمع فنانين من ليبيا وإيطاليا، وأعمالها اليوم تُعدّ من أبرز التجارب النسوية التي تسهم في تجديد المشهد التشكيلي الليبي.
“أثيري”.. بين التجربة الشخصية والتأمل الوجودي
يحمل معرض “أثيري” روح الفنانة بكل تفاصيلها، فهو ليس مجرد عرض للوحات، بل هو تجسيد لمسيرتها الداخلية التي بدأت من الزخارف التقليدية الليبية وصولًا إلى التجريد الحديث.
في أعمالها الأولى، ظهرت الزخارف الدائرية المستوحاة من العمارة والنقوش الليبية القديمة، لكنها أعادت صياغتها في قالب معاصر ينبض بالحياة.
أما الآن، فتبدو شخوصها أكثر تحررًا، كأنها تتلاشى في الضوء، لتتحول إلى رموز للروح والجسد والاتصال بالطاقة الكونية.
كل لوحة في المعرض تحكي عن رحلة بين الداخل والخارج، بين ما يراه المشاهد وما تشعر به الفنانة.
ففي لحظةٍ ما، يصبح المشاهد شريكًا في التجربة، يتأمل تدرجات الألوان، ويكتشف أنه أمام تجربة تأملية أكثر منها بصرية.
الفن كجسر بين العلم والروح
من اللافت في تجربة الصيد، أنها تربط الفن بالعلم، واللون بالطاقة، فالأثير عندها ليس مصطلحًا فلسفيًا فحسب، بل عنصرًا تشكيليًا يحمل رموزًا روحية.
تستند في أعمالها إلى مفاهيم الطاقة والهالة وتأثير المشاعر في الجسد، وهو ما يجعل أعمالها تقترب من المدارس التي توظّف الفن كعلاج، وتؤمن بأن اللون وسيلة للشفاء والانسجام الداخلي.
وتؤكد الفنانة في رؤيتها:
«أؤمن بأن الفن وسيلة للتواصل والتعبير عن الروح والجسد الإنساني، وهو ما أسعى إليه في كل لوحة أقدمها، أن يلمس المتلقي شعورًا يشبهه، أو يفتح أمامه بابًا للتأمل».
تعمل الفنانة حاليًا على إعداد أطروحة الدكتوراه في الفنون التشكيلية، مواصلةً بحثها حول العلاقة بين الفن والطاقة والروح، وتسعى من خلاله إلى تقديم مقاربة علمية جديدة تربط الممارسة التشكيلية بالفكر التأملي.
ويبدو أن معرض “أثيري” ليس سوى البداية في سلسلة من المعارض التي تخطط لها الصيد لاستكشاف “الأثر المتعدد” للون والضوء في حياة الإنسان، إذ ترى أن الفن الحقيقي هو الذي يُحدث صدى في الداخل قبل أن يُعرض على الجدار.
من خلال “أثيري”، لا تقدّم مريم الصيد لوحات فنية فحسب، بل تجربة وجودية تدعو إلى التأمل في ماهية الإنسان وصلته بالكون.
فالأثير عندها ليس مادة غامضة، بل حالة شعورية تعكس صفاء الروح وتوترها، فرحها وحزنها، وهي بذلك تضع المشاهد أمام مرآة من الضوء، يرى فيها نفسه بطريقة مختلفة.
إنه معرض يستحق الوقوف أمامه طويلًا، لأنه يُعيد إلى الفن دوره الأول: أن يكون لغة الروح.









