كتاب الرائ

واستوطنت عقله..

فيحاء العاقب -

واستوطنت عقله..

فيحاء العاقب

بجانبها المذياع تستمع لصوت المذيعة وهي تتحدث الى ان صدح صوت الست “ام كلثوم كخلفية بدأت تتعالى حتى اختفى الاول ليتسلل الاخير الى داخلها كماء عذب يطفئ ظمأ عطشان تلظى بحر الصيف. “انت عمري اللي ابتدآ بنورك صباحو” صورة حية تحكي ذاتها التي لمست الحب مذ صادفها وجهه الطفولي الرجل صادقا، دافئا، لطيفا .. تحتمي به كلما تربصت بها الحياة، او انها حاولت خلع ثوب القوة الذي ترتديه في كل الفصول.. ذلك الثوب الذي تجده مقلقا تارة فتتململ لتنزعه حين يضيق، وواسعا فضفاضا مريحا تارة اخرى. ذات جولة حب من جولاتها المعتادة وهي تحادثه ليلا في احدى زيارات عمله خارج البلاد، حيث وجدت في ذلك خلوة تسترقها من وقته المزدحم حد الملل، يأتي صوته من خلف الهاتف هادئا رصينا مرحا، بعد ان تناول وجبته التي وعلى ما يبدو انها لم تشبعه، فبعد توجهه الى المطعم بكل ثقة ادخل يده في جيبه ليجده فارغا تمام الا من ملاليم قليلة تكفي لشراء وجبة بسيطة، فقد نسي محفظته في الفندق. ساخرا كان يقص ذلك، فهو لم يعتد يوما على حياة البسطاء، الذين يفكرون الف مرة قبل ان يخرجوا فلسا، والذين يبحثون في قائمة الطعام كثيرا عما يتناسب والامكانيات، ضحكت للمشهدين معا.

حكى لها القصة، وما انفكت تلك القهقهات تتعالى حتى ازف البين، فمكالمة هاتفية مباغتة اعلنت عن انتظارها في الجانب الاخر. لم تنزعج.. فهي سعيدة حد الدفئ، حتى انها ازاحت عن جسدها اللحاف الذي يغطيها رغم برودة الطقس بتأفف، فلا حاجة لها به، لأن مكالمتة قد احدثت في داخلها هزة ارضية بقوة 10 ريختر، وجعلت من دقات قلبها كما القرع على طبل افريقي يعلن عن بدأ الاحتفال ويصل صوته لأبعد مدى عابرا غابات السافانا ومتعرجا مع الانهار حتى المصب. من جديد.. رنين هاتف.. واشعاع ضوء ينير المكان بل ينير روحها من الداخل، بسرعة البرق تعود لتكمل الحديث بفرح طفلة تنتظر العيد لترتدي ملابسها وتطوف في الحي رفقة صديقاتها يطرقن الابواب ويملئن جيوبهن بالحلوى، وحقائبهن بالعيدية. هو يظهر وفقا لقوانينه الخاصة، فبأمر ديكتاتورية الحب يطل او يختفي وما لها إلا الانتظار يستمتع بكونه ملكا متوجا يزهو بالاستبداد والغرور الحسن، وهي تخفض له جناح الذل من العشق، وترى فيه سيد الاسين لقلبها الذي ملَكته اياه بمحض ارادتها.

اغلقت الهاتف ونامت، بعد ان تمنت وضعه بين الاهداب حتى لا يصاب بمكروه استيقظت على صوت ضجيج التلفزيون، واضواء خافتة تداعب وجهها بين الحين والاخر، استيقظت ونهضت خفيفة كريشة تتحرك بخفة شديدة وكأنها طيف. المكان حولها غريب للغاية.. منظم جدا وهادئ، تفوح منه رائحة احلى من كل العطور الفرنسية، ففي تلك الزواية مكتبته التي احتشدت بالكتب، وبجوارها مجموعة من الارفف التي رتبت عليها اوراق مأرشفة وفقا للاهمية، في الجانب المقابل صالون انيق ارجواني اللون خصص لمناقشة كل ماله علاقة بالثقافة، وكرسي هزاز امامه كوب من الهوت شوكليت، وهناك بقعة ضوء زرقاء تصدر صوتا مألوفا.. بتدقيق النظر اتضح انها صفحته الفيسبوكية بكل ما تحمل من تفاصيل، يقابلها ممر ضيق رمادي اللون معتم كما السجن خصص للنقاشات السياسية، اشاحت نظرها عنه سريعا قبل ان تسيطر عليها سلبية الموجات المنطلقة كما السهام. الارضية في المكان كانت كما الفلين، كثيرة التعرجات، عليها سائل هلامي القوام، سارت بخطى ثابتة حتى وقفت امام جزء كل اثاثه بلون البنفسج، هو الجزء الاكبر من المكان، شدت انتباها فتاة تراقص رجلا رقصة التانجو بحيوية شديدة، يتقاربان ويتباعدان، يكونان لوحة فنية يمتزجان كما الجسد الواحد، يهدأ الايقاع فتتعالى انفاسهما محدثة لحنا اخر، يثبت نظره في عينيها، ويلفها بيديه مكونا حزاما حول خصرها يقترب من ثغرها يذوبان عشقا حد التماهي، ويسكران من خمر الهيام، ويرتعشان من سريان تيار الهوى.

لم يكن المكان مسرح البولشوي، ولم يكن العرض بحيرة البجع، فهذا العرض خاص جدا ولم يشهده التاريخ ولن يشهده، بفضول حاولت استيضاح ملامح الفتاة، كم تشبهها بلونها الاسمر، وشعرها الافريقي المجعد، وجسدها النحيل، وعينيها الواسعتين، وقميصها الازرق الشفاف. صعقت لهول المشهد، كانت هي، ، والمكان عقله، نعم تجولت في عقل حبيبها الذي طالما رغبت في زيارته، وجدت نفسها تحتل الجانب الاكبر منه..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى