كتاب الرائ

متون وهومش – هذا المكان المجرد –

الهادي الورفلي -

متون وهومش

هذا المكان المجرد

الهادي الورفلي

ليس ” المكان ” مجرد عنوان يتحرك داخله الإنسان ، إنه حالة كاملة من الهوية الاجتماعية ، والمؤثر الثقافي ، ومن الارتباط العاطفي أيضاً حيث هذه الحالة بمكوناتها التى ذكرنا هي التي تفسر سير هذا الارتباط القوي بين الإنسان والمكان ..، فالمكان هو الموضع الذي يولد فيه الإنسان ..، ومنه يكتسب عنوانه وثقافته ، وهويته النفسية ..، وتنمو فيه معارفه بآفاقها المحدودة والمفتوحة .. في المكان ولدت الأسئلة الأولى بسذاجتها وبراءتها ، وبساطتها .. ، وفي كنف هذا المكان تعقدت تلك الأسئلة وكبرت وتعددت وتشابكت ، وتمددت على حدودها الصغرى فتجاوزتها إلى ما هو أبعد حيث الآفاق أرحب للحيرة ، وللتعجب ، وحتى للانبهار ، فيكون البحث عن أجوبة حاسمة لتلك الأسئلة الصادمة الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل نحو المعرفة ونحو الاطمئنان .. والسكون .. ، وحيث يصير المكان بأسراره القديمة ، ورحابته المتوهمة لغزاً يمكن الآن وقد تفوق عقلنا عليه بشكل مذهل اكتشاف الحقيقة الأولى حيث لا يكون “المكان” كبيراً إلا حين نكون نحن صغاراً .. أما فقد أضحى مكاننا الأول صغيراً ليس فقط في عيوننا بل وأيضاً في رؤانا ، وأحلامنا وأمانينا التي كبرت هي الأخرى ..

الإنسان ، هذا الكائن “المتحرك” لا يأسره مكان واحد ، فرغم ما يربط الإنسان بالمكان الأول إلا أن تناقض المتحرك مع الثابت هو الذي يدفعه في كل مرة إلى الترحال والتنقل .. بحثاً عن جديد .. أو غريب .. أو مفيد ، وكان في كل مرة يرحل فيها من مكانه يحمل معه ذكرياته .. وما تعلم وأكتشف من معارف ، وطباع ينقلها لمكان جديد ليزرعها فيه ، وليحمل منه ما زرع غيره في عملية أشبه بالتلاقح .

“المكان ” إذن ليس مجرد “موقع ” .. بقدر ما هو ” فاعل في تشكيل هويتنا وانتماأنا ..، المكان ذكريات سعيدة ومؤلمة ..، والمكان أيضاً ارتباط وجداني .. وهو أيضاً دافع للتنقل ، والسفر والاكتشاف ..

 

هنا ، وهناك وهنالك كلها إشارات “مكان” وعناوين بارزة أما أن تكون اماكن مجهولة لبعضنا ..،  وأما أن تكون مزدحمة “بإثار” بعضنا الآخر ..، وتبقى حكاية ” المكان” دائماً بداية لرحلة طويلة وهي أيضاً بداية ، ونهاية لرحلة أخرى .. ولإنسان آخر .. ولاحداث وصور وذكريات مختلفة تصبغ المكان بلونها .. ، ويكتسب هذا الإنسان ” الوافد ” أو الراحل ” من هذا المكان صبغته منه .. من المكان الثابت في انتظار “الإنسان” المتحرك والمتغير ليبدأ التفاعل بينهما .. ولتبدأ معه خطوة الحياة الأولى التي تحيل “المكان البكر ” إلي مكان يشع ” عبقرية بقوة هذا الإنسان الذي خلق ضعيفاً ليصنع قوته بيديه .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى