كتاب الرائ

صورة وتعليق (5)

■ سالم الوخي

صورة وتعليق
(5)
■ سالم الوخي

مشهد وصورة اليوم والتعقيب عليهما يتمحوران حول ما أجمع عليه أغلب نقاد الفكر والخطاب العربي الحديث والمعاصر حول سيادة الصيغ والروافد التوفيقية والإنتقائية وتوالدها وتكاثرها، معبّرة عن الحلول الوسطية الجامعة للمجتمع العربي .
أتحدث عن ظاهرة الفكر والوعي التوفيقي والإصطفائي الذي يحاول الإجابة على أسئلة الحضارة، معتمدا آلية الإنتقاء بالإبقاء أوالحذف من الأنظمة والأنساق والخطابات الفكرية، أو الدمج أو التناغم بين الثقافة الأوروبية الوافدة وبين التراث العربي والإسلامي .
وكما سبق وأن أشرت في بداية مقالاتي الماضية، الى أنها خلافات ماراثونية طويلة لم تهجر العقل العربي، أراها تحاول المواءمة والإنسجام بين الثنائيات المتمثلة في القديم والجديد، أصالة ومعاصرة، تراث وواقع، إشتراكية ورأسمالية، قطرية ووحدوية، مادية ومثالية بالمعنى الفلسفي .
تاريخيا ظهرت النزعة التوفيقية مع المعتزلة الأوائل، وهناك من يقول بميلادها مع المصلح المصري رفاعة الطهطاوي (1801 – 1873) بعد رجوعه من فرنسا وريادته عصر النهضة العربية الثانية .
ونقل عن بعض المؤرخين للفكر العربي الحديث تأكيدهم، أن التوفيقية حقيقة جامعة ودينامية خاصة بالمجتمع العربي وروح عامة لها علاقاتها وقوانينها وحل فكري للكثير من المتناقضات، بينما يراها البعض وجهات نظر تناصر أو تضمر المناصرة لإحدى التيارين اليميني أو اليساري .
وخلال المباريات الفكرية بين صفوف المثقفين والمفكرين العرب، وتيارات اليمين واليسار، نرصد من بينها معارضة بشدة وضراوة لفكرة التوفيقية، ونقرأ وجهات نظر لأسماء في الحياة الفكرية العربية، تصفها بواقع اللاحسم في الحياة العربية المعاصرة، بينما هناك من يتوقع لها الإخفاق مثل تيار المعتزلة في الماضي .
ونجد من يقراها كأحد وجوه عدم الأصالة ولاتفسر الواقع العربي والتاريخ العربي الحديث والمعاصر بجدلية مستمدة من تراثه وحضارته وذاتيته . لذا نشاهد ردات فعل تدعو للعودة للذات الحضارية وفهمها من الداخل واستكشاف قوانينها وعلاقاتها الأصلية .
إحدى القراءات الأكاديمية تلاحظ عدة أنواع من التوفيقية منها الإصلاحية ويمثلها رفاعة الطهطاوي، وعبدالرحمن الكواكبي، وخيرالدين باشا التونسي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومنها التوفيقية القبولية أي القبول شبه المطلق للفكر الآخر الأوروبي ومثلها سعد زغلول، ومحمد حسين هيكل…
وفقا للمؤرخين، ظهرت كذلك التوفيقية الجديدة التي دعا إليها الشيخ محمد رشيد رضا المنادي بتطبيق الشوري الإسلامية على شكل مجالس نيابية تشريعية ونظام اقتصادي ومالي إسلامي مميّز بالروح الإصلاحية الإجتماعية ..
كذلك برز في المغرب العربي مشروع الإصلاحي خير الدين باشا التونسي، ونقل عن مقدمة كتابه المشهور ( أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك ) دعوته الى الخروج من العزلة الى الحضارة الحديثة، والى التتلمذ عليها فيما لايتعارض وأصول الشريعة الإسلامية السمحاء ….
كذلك نقل عن جمال الدين الأفغاني اقتباسه من الأصول السياسية والاقتصادية الأوروبية في دعوته للإصلاح العربي والإسلامي والشرقي، وذلك بصورة غير مباشرة وطالب في الوقت نفسه، بالحفاظ على الهوية القومية والإسلامية فيما يتعلق بشؤون العقيدة والشريعة، وشؤون الإجتماع والثقافة واللغة والتربية والتعليم . وأدان الأفغاني استيراد العقائد المادية والطبيعية والعدمية والإباحية من الغرب .
وأشهر مشروع توفيقي في الشرق العربي في العصر الراهن، دعا إليه المفكر المصري توفيق الحكيم، طارحاً فكرة أطلق عليها إسم: ا التعادلية ا التي يعرفها بأنها الإعتقاد بأن الإنسان كائن متعادل ماديا وروحيا، وأنها التعادل بين قوة العقل وقوة القلب وبين الفكر والعمل وبين الحكم والمعارضة .
وأغلب تلك الأسماء ظهرت وبرزت في الحقول الفكرية والثقافية في القرنين التاسع عشر والعشرين، وكانت لها منابر أحدثت من خلالها أصداء في فضاءات ومسارات الثقافة العربية والإسلامية، وشكلت وعياً عربياً تتعدد وتتشظى نظراته، وتتباين وتتفاوت التقييمات والرؤي حوله .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى