كتاب الرائ

رموز ونجوم في سجل العمر (14) –

محمود السوكني -

رموز ونجوم في سجل العمر

محمود السوكني

العمل في الهيئات الدبلوماسيَة على خطورته وحساسيَة مهامه المناطة بالمكلفين به إلا أنه ممتع ومفيد وفرصة للإستزادة بشتى صنوف المعرفة ووسيلة مثلى لصقل وبلورة الشخصيَة الدبلوماسيَة وتوسيع مداركها مما يساعدها على تقديم الصورة المشرفة للبلد الذي تمثله ، وهذا لايتأتى إلا بشرط العمل في بلد منفتح على العالم قابلٌ للتعاطي مع الآخر يتمتع مواطنوه بحرية التحرَك و إبداء الرأي دون التعرض للمساءلة والملاحقة والزج بهم في غياهيب السجون .

كانت القبضة الحديدية التي تصبغ حكم الرئيس ” تيتو ” لاتسمح بهذا التواصل الغير مرغوب فيه وهذا البراح المنفلت وهذة (الديمقراطية الزائفة) التي يسوَقها (الغرب المخادع) لجذب الشعوب وإيقاعها في شرك (غواية) التعلق بكل ما هوجديد وغير مألوف مما يُعد خروج عن الجموع وصدامٌ مع الوطن (!!) أو هكذا يروَج النظام . كان المؤتمر الصحفي الإسبوعي الذي يقيمه الناطق الرسمي بإسم الحكومة وحده المصدر الأساسي للرأي الرسمي للدولة حيال مايقع من أحداث والغريب في الأمر أن ما يطلق عليه (موتمراً صحفيِاً) عبارة عن إلقاء الناطق لبيان الحكومة الموجز في مجمل الأحداث دون إتاحة الفرصة لإلقاء أسئلة أو سماع تعليقات في الخصوص !! غير ذلك لاتوجد مصادر أخرى سوى مايصدر عن الوسائط الإعلاميَة من تلفزيون وإذاعة وصحف وكلها بالطبع تتبع النظام الحاكم وتخضع لإشراف وتوجيه وزارة الإعلام في حكومة الزعيم “تيتو” .

كان دور القسم الصحفي –في هذا البلد تحديداً- يقتصر على نقل ماينشر أو يذاع إلى جهات الإختصاص وفي مقدمتها إدارة الإعلام الخارجي إذ لم تكن قد وصلتنا بعد تقنية هذه الأيام من وسائط التواصل الإجتماعي وكُنَا لذلك نجتهد في ترجمة ماينشر ونحيله في تقارير ومكاتبات شبه يوميَة تجمَع غالباً مع غيرها من المكاتبات وترسل في الحقيبة الدبلوماسيَة التي كانت تشحن رفقة موظف مختص على متن الخطوط الجويَة الليبيَة ، فيما كان المستعجل منها يُبرق بالبريد السري أو ماكان يعرف ب(الشفرة) التي كان ينقل عبرها كل ماهو سري للغاية وحساس وعاجل وكُنا – ولسنا وحدنا في هذا- نتوهم أن هذه الوسيلة يصعب إختراقها ولايمكن حل شفرتها إلا للموظفين المختصين الذين دُرِبوا على إستخدامها وهم مجموعة منتقاة بعناية فائقة وبشروط دقيقة وصارمة لاتسمح بتسرب ما يتلقونه عبر هذه الوسيلة من معلومات قد يؤدي إفشاؤها إلى مالا يحمد عقباه .

حقيقة الأمر ، أو ماتم إكتشافه لاحقاً أن كل مايرسل بالشفرة أو بدونها يصل بالتمام والكمال إلى الدول المتحكمة في هذه الوسائل حتى وإن اوهمتنا بغير ذلك ويحضرني الآن حادثة مشهورة في الوسط الدبلوماسي حدثت في أواسط سبعينيات القرن الماضي إذ إرسلت الحكومة الليبية برقية مشفرة إلى سفيرنا في الإتحاد السوفييتي أنذاك تطلب إجراء محادثات في إمكانية التعاون النووي بين البلدين ولأن البرقية تتطلب سرعة الرد قام السفير الليبي حينها بالإتصال بمكتب شئون إفريقيا بوزارة الخارجية السوفيتية يطلب مقابلة عاجلة فوجيء أثنائها بمدير المكتب المختص يخبره بضرورة إعادة إرسال البرقية مع إضافة الجملة التالية ( للأغراض السلميَة) وأردف قائلاً :- كما علمنا نحن بفحوى هذه البرقيَة هناك غيرنا قادر على ذلك أيضا !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى