كتاب الرائ

الكبار لايرحلون

عواطف الطشاني

الكبار لايرحلون……. لانهم يبقون القدوة والعلامة الفارقة والأثر المضيء
عواطف الطشاني:

وداعا استاذي ومعلمي الاول عبد الكريم نوري القرقني.. اقولها بلوعة وحزن كبيرين…

قد عرفت تلك القامة العملاقة منذ بداية تلمسي لمشواري المهني لازلت اذكر يوم استلامي لمحضر حلف اليمين القانوني من محكمة جنوب طرابلس الابتدائية عندما أعلن القاضي حسن البوعشي ولادتي المهنية ذهبت حينها مسرعة لنقابة المحامين وسلمت ذلك المحضر للأستاذ ابراهيم العزابي امين سر نقابة المحامين لاستخرج بطاقة العضوية…

خرجت من عمارة نقابة المحامين الكائنة بشارع عمر المختار احمل فرحًا وشغفا وخوفًا ورهبة لمهنة لطالما عشقتها وحلمت بها طوال سنوات الدراسة…

ذهبت بعدها مسرعة لم اعرف كم أخذت من الوقت عند وصولي لمشغل اخي المرحوم فاضل لأستلم روب المحاماة الذي حرص ان يصممه مثلما أردت.. كانت لامسات اخي فاضل وفنه في التفصيل والحياكة واضحة في نوع القماش الرفيع الذي اختاره والتصميم المميز.. دخلت عليه ووضعت على طاولة التفصيل بطاقة العضوية وكان قد كتب فيها (محامية تحت التمرين). احضر لي الروب والبسني إياه ورحت أترافع أمامه واردد سيدي القاضي حضرات المستشارين.. صفق بيديه وحضنني وقال لي: ”اجمل روب محاماة لأجمل محامية“…

خرجت منه والدنيا لم تسعني من الفرحة. كانت تنقصني حقيبة المحاماة.. ذهبت مسرعة لشارع بيروت المتفرع من شارع الاستقلال اشتريت حقيبة من محل بوسرويل وخرجت منه لشارع الاستقلال ابحث عن مكاتب المحاماة.. كنت اقف امام اللافتات وأسجل الاسماء.. كانت الاسماء كلها معروفة عندي كنت قد حفظتها مسبقًا اثناء مروري من شارع الاستقلال عند رجوعي من الجامعة المحاذي لشارع ميزران حيث اسكن…

قبل ان اكمل الشارع وقفت عند لافتة كتب عليها (مكتب المحامي بالقاسم ابو الهول).. صعدت درج العمارة ودخلت المكتب وجدت المحامي (رستم قرادة).. استقبلني بابتسامة هادئة.. قال لي تفضلي.. قلت له انا المحامية عواطف الطشاني.. اذكر انى قلتها بفخر. كانت تلك اول مرة اعرف نفسي بهذه الصفة رد على اهلًا وسهلا بك استاذة عواطف. قلت له انا ابحث عن فرصة عمل كمحامية تحت التمرين وقدمت له بطاقة العضوية ومحضر حلف اليمين بثقة وفخر كبيرين. قال ليك ”رائع.. يظهر عليك انك تحملين نشاطًا وشغفا للمهنة.. مارأيك ان تأتي غدا لتقابلي الأستاذ ابو الهول لانه غير موجود الان“. قلت له ان شاء الله سوف امر عليه غدا…

خرجت من مكتب الأستاذ ابو الهول منتشية احسست ان هناك فرصة كبيرة لتوظيفي.. أكملت شارع الاستقلال عند نهاية الشارع وفي اخر ناصية له رفعت راسي لأجد لافتة كتب عليها مكتب الأستاذ عبد الكريم نوري القرقني. صعدت الدرج ودخلت المكتب وجدت سكرتيرًا قلت له اريد مقابلة الأستاذ. قال لي ”هل لديك موعد مسبق؟“.. قلت لا انا زميلة له. قال لي: ”حسنا انتظري سأخبره بقدومك“…

خرج من المكتب وقال تفضلي بالدخول. دخلت لأجد قامة شامخة وشخصية مهيبة عرفت نفسي وأبديت رغبتي في العمل والتمرين في مكتبه نظر لي نظرة عميقة إخافتنى لاحظ خوفي ورهبتي عندها ابتسم ابتسامة خفيفة أراحتني قليلًا اخرج ملفا من الدرج وقال: ”تصفحيه.. اطلعي على صحيفة الدعوى ومذكرة الدفاع“…

استلمت الملف وقلبي يرجف ويداي ترتعش وقرات بتمعن بعدها قال احفظي الطلبات الموجودة في ختام مذكرة الدفاع قرأتها مرتين وقلت له حفظتها قال ردديها.. رددتها بصوت عالي وكأنني أترافع امام المحكمة لم يرفع رأسه ولم ينظر الي.. كان يملأ بيانات ورقة أمامه وغمرها بتوقيعه.. توقعت انها مستند من مستندات الدعوى. حينما أكملت رفع رأسه وقال: ”انت رائعة.. ماهذا الصوت وهذه اللغة“.. سلم لي تلك الورقة وقال: ”خذي هذا التفويض.. سلميه غذا للقاضي“…

كانت تلك الورقة تفويضًا كتب فيه اسمي ليخول لي الترافع في الدعوى امام المحكمة.. اذكر ان القضية كانت امام الدائرة المدنية وكان المدعي فيها رجل الأعمال (احمد النايض) ضد الدولة الليبية يطالب فيها باسترجاع عقارا. أخذ هاتفه واتصل بالموكل الأستاذ (احمد) وقال له: ”غدا سوف تجد المحامية عواطف الطشاني.. هي من ستترافع في القضية“…

خرجت من مكتبه وكلي فرحًا يا الله لقد أصبحت محامية حقًا وغدًا سوف أترافع في اول قضية لي كيف حدث كل ذلك في يوما واحد في صباح هذا اليوم لم اكن سوى خريجة باحثة عن عمل لم يأتي المساء الا وانا احمل صفة محامية مقيدة بجدول المحامين المشتغلين. لم أنم تلك الليلة وانا افكر ماذا سأرتدي وكيف سأبدو بروب المحاماة وانا أترافع امام الجميع…

ذهبت للمحكمة مبكرًا لأبحث عن القاعة المخصصة للجلسة تعرفت عليها وجلست انتظر افتتاح الجلسة. دخل كاتب الجلسة بالملفات وامتلأت القاعة بالحضور. جلس المحامون في الصف الأمامي جلست معهم كان ملف قضية موكلي الثاني. نادى القاضي على اسمه.. وقفت بسرعة امام هيئة المحكمة.. قدمت التفويض. شعرت برجل يقف بجانبي التفت له قال لي: ”انا احمد النايض“. عرفت انه موكلي. أكملت مرافعتي وقلبي يرجف وقدماى ترتعش.. طلبت حجز الدعوى للحكم.. استجاب القاضي لطلباتي رغم اعتراض إدارة القضايا عليها. ابتسمت للقاضي وشكرته. عرفت بعدها ان هذا التصرف غير مطلوب.

رجعت لمقعدي لأخذ حقيبتي.. وجدت الأستاذ (رستم قرادة) جالس بجانبها. قال لي: ”كنت رائعة استاذة.. هل صرفت النظر عن الشغل معنا؟.. لاباس بداية موفقة مع الأستاذ عبد الكريم مع اننا رغبنا ان تكوني معنا“. شكرته على دعمه وانا محرجة لعدم التزامي بموعدي معه…

وانا في طريقي للخروج من القاعة وجدت استاذي عبد الكريم ينتظرني.. تفاجأت بوجوده.. قال لي: ”كنت اكثر من رائعة“.. قلت له لماذا لم تخبرني بأنك ستحضر الجلسة؟.. قال: ”انا لم احضر للجلسة.. حضرت لأجل دعمك.. لايمكن ان اتركك لوحدك“. عرفت انه حضر قبلي وهو من قدم الملف ليكون الثاني حتى لا انتظر كثيرا…

ومن ذلك اليوم انطلقت رحلتي معه استاذا ومعلما، وقبلهما ابا حنونًا، عندمًا كان عودي المهني طريًا جدا.. امضيت معه سنوات أجول واصول بجانبه في اروقة المحاكم متعلمة منه أصول اللياقات في التعاطي الحسن بين الزملاء المحامين واصول التعاطي مع القضاة. كانت وصاياه المهنية عديدة.. عرفت منه ان الجرأة بدون موضوعية تصبح تهورا وان المعرفة القانونية التى لاتصاحبها الهيبة تصبح مهانة وان من لايجعل الحكمة في الكبيرة والصغيرة بوصلته يقدم لمبغضيه الهدايا مجانا…

تدرجت مهنيًا امام عينه وفي كنفه وهو بجانبي بقامته الفارعة وظله الطويل من محامية ثم مستشارة قانونية حتى كلفت بمنصب وكيل وزارة افتخر هو فأفتخرت انا…

كنت ابتدع اللقاء به لأخبره عن إنجازاتي المهنية والشخصية لأسمع منه الثناء والاطراء كان يقول لي دومًا: ”منذ اول يوم عرفتك فيه آمنت بك وايقنت انك سوف تصلين وتحقيقين نجاحات يشار اليها.. استمري فقط وتحصني بوصاياي المهنية لتكتبي تاريخا لا غبار عليه“…

لاأعرف كيف يمكن ان يعزي الإنسان نفسه في أستاذه ومعلمه ومن غرس في روحه حب الحياة جميل ان تكون مربي قبل ان تكون معلم.. ان تكون قدوة قبل ان تكون استاذا.. ان تكون ابا حانيا قبل ان تكون صارما…

رحمك الله استاذي.. رحمة تسعك بعدد الكلمات التي انرت بها دربي ودرب الكثيرين غيري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى