مسيرة الطب في ليبيا من الطب الشعبي إلى الحاجة لإصلاح جذري

د.علي المبروك أبوقرين
منذ أواخر القرن التاسع عشر ، كانت الصحة في ليبيا صفحة تُكتب بالحكمة والتجربة والإيمان ، وكان الطب الشعبي هو المرجع والمأوى ، يعتمد على الأعشاب والعطارة والحجامة والكي والتعاويذ والعلاج بالقرآن والذكر ، وعلى أيدي القابلات والمداوين الشعبيين الذين ورثوا المهنة أبا عن جد ، فكانوا يجمعون بين الفطرة والنية والخبرة المحدودة ، وذلك الطب كان انعكاسا لزمنه وثقافته ، حين كانت المعرفة شحيحة والوسائل بسيطة ، وحين كان المرض يُعالج بالدعاء كما بالاعشاب ، وبالصبر كما بالدواء ، ثم جاءت مرحلة الاستعمار الإيطالي لتُحدث أول تحول هيكلي في مسار الطب الليبي ، حيث شُيدت مستوصفات ومستشفيات محدودة في المدن الكبرى وأماكن تواجد المستعمرين ، تُدار بعناصر إيطالية وتمريض من الراهبات المتخصصات ، ومع رحيل الاستعمار ، بقيت تلك المباني ، وكأنها شواهد على بدايات النظام الصحي الحديث ، إذ لا تزال كثير منها قائمة إلى يومنا هذا تحمل في جدرانها تاريخا من الألم والتحول ، وفي سبعينات القرن العشرين ، بزغ فجر مختلف ، كانت ليبيا على موعد مع نهضة صحية وتنموية غير مسبوقة في المنطقة ، أُنشئ أكثر من مئتي مستشفى ومئات المراكز الصحية والمستوصفات بمستويات متنوعة من الخدمات والتخصصات ، وفق تسلسل هرمي مدروس وموزع جغرافيا بما يضمن العدالة الصحية ، وكانت التجهيزات الطبية آنذاك من الأحدث عالميا ، والبنى التحتية تُصمم وفق ثقافة الناس وأنماط عيشهم ، مستجيبة لخصوصياتهم الاجتماعية والبيئية ، غير أن تلك النهضة الصحية الكبرى واجهت تحديا حقيقيا تمثل في نقص الكوادر الوطنية المؤهلة ، فتم الاعتماد الكامل على الكفاءات الأجنبية جماعات وأفرادا ، في التشغيل والإدارة والتدريب ، على أمل أن يأتي اليوم الذي يُستبدل فيه الوافد بالمحلي المؤهل ، ولكن ذلك الأمل اصطدم بتوقف عجلة التنمية في نهاية الثمانينات ، حيث بدأت مع الوقت البنية التحتية تتقادم ، والصيانة تتراجع ، والتجهيزات تتآكل ، والمخرجات التعليمية لا تواكب التحولات العلمية والتقنية في الطب الحديث ، ومع مرور العقود ، ازداد الفارق اتساعا بين ما كان يُفترض أن تكون عليه الخدمات الصحية ، وما هي عليه اليوم ، وتغيرت أنماط الحياة والمعيشة ، وارتفع مستوى التعليم والدخل ، وتبدلت تطلعات الناس ، بينما ظلت المنشآت الصحية على صورتها القديمة ، لا تواكب التحول في التقنية والإدارة ، والتخصصات الطبية ، ولا تستجيب لاحتياجات الإنسان الحديث الذي يبحث عن الراحة والجمال والخصوصية والفندقة والخدمات العصرية ، وأما التمريض والإدارة الصحية والخدمات التخصصية الدقيقة ، فما زالت تمثل الحلقة الأضعف في منظومة الطب الليبي ، نظرًا لغياب التعليم الطبي الحديث ، والتدريب السريري المتطور ، والبحوث الطبية والصحية التي تُعد أساس كل تقدم ، وإن مخرجات التعليم الطبي الحالية لا تتناسب لا مع الطب المعاصر ولا مع طب المستقبل ، مما يجعل الحاجة ملحة إلى ثورة فكرية وعلمية ومؤسسية تعيد رسم النظام الصحي برؤية جديدة ، إن إصلاح النظام الصحي في ليبيا لم يعد خيارا بل ضرورة وجودية ، تبدأ من إعادة بناء البنية التحتية وفق معايير الجودة والحداثة ، مرورا بإعداد الكوادر الصحية والإدارية المؤهلة ، وإعادة هيكلة سلاسل الإمداد الطبي ، وتأسيس بيئة داعمة للبحث العلمي والتطوير ، وصولًا إلى ثورة حقيقية في التعليم الطبي والتدريب السريري ، وذلك هو الطريق إلى نظام صحي عصري قادر على التفاعل مع التحولات العالمية ، ومواكبة مفاهيم الطب الاستباقي ، والتنبؤي والفردي والمنزلي ، والصحة الواحدة ، في إطار منظومة موحدة ممولة من الموازنة العامة والضرائب ، تكفل العدالة والكفاءة والإنصاف ، دون اللجوء إلى بدائل تمويلية وهمية يروج لها الاقتصاد الصحي الطفيلي ، وكما بدأت المسيرة من الصفر وبلغت الذروة ، ثم تراجعت ، يمكن أن تنهض من جديد إذا اجتمع العلم والإرادة والرؤية والحكمة ، فالطب ليس مجرد علاج ، بل هو تعبير عن حضارة ، وعن وعي الإنسان بقيمة الحياة ، وليبيا التي عرفت كيف تبني من العدم ، قادرة أن تعيد بناء نظام صحي يليق بتاريخها ، ويستجيب لطموحات حاضرها ، ويؤسس لمستقبل يستعيد روح الطب والعلم والإنسانية معا .






