كتاب الرائ

الوعي الصحي والكرامة الانسانية

د . علي المبروك أبوقرين

في زمن التسابق على التقنيات الحديثة ، والتكنولوجيا الطبية المتطورة ، وتسليع صريح للخدمات الصحية ، وتقلصت فيه الأبعاد الإنسانية والاخلاقية ، وزادت فيه تضارب المصالح ، والتفاوت الطبقي في تقديم الرعاية الصحية ، والتمييز ضد الفئات الهشة والضعيفة ، وتغول الطب التجاري على الطب الإنساني ، وتراجعت فيه للأسف الأخلاقيات الطبية لصالح تحقيق الأرباح والثراء السريع على حساب المرض ، وزادت الأسئلة الفلسفية المشروعة عن ما هي العدالة الصحية ؟ وهل من حق الإنسان أن يمرض بسبب الفقر ؟ ومن الذي يحدد قيمة الحياة ؟ وهل مهنة الطب مختزلة في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي ، والبروتوكولات العلاجية ؟ ولماذا كل هذه الانتهاكات التي يتعرض لها المرضى بالمؤسسات الصحية ، وما هي مشروعية التجارة بالأدوية حتى تحولت في بعضها إلى  جرائم تهدد صحة وحياة الناس ، ولماذ كل هذا التوحش التجاري والتمييز المتزايد ، وللسلبيات المخيفة التي بداءت تظهر على ممارسة مهنة الطب من أول التعليم الطبي والصحي والتدريب السريري الذي صار مخالفًا لكل المعايير المهنية والأخلاقية والإنسانية ، وانتقل الى مفاهيم خاطئة في ممارسات الخدمات الصحية ، عليه صار لزامًا التفكير في تأسيس مؤسسة فكرية فلسفية تُعنى بالطب والصحة ، وإعادة بناء معرفي متكامل لمفهوم الصحة والمرض والوقاية والعلاج ، وتشكيل مجال إنساني وأخلاقي وثقافي أبعد وأشمل من مجرد خدمات علاجية كما نراها الآن ، مؤسسة فكرية فلسفية تعنى بالوعي الصحي والكرامة الانسانية ، ليست للبحوث التقنية أو الطبية فحسب بل تتعامل مع الصحة كمنظومة أخلاقية وثقافية وإنسانية ، تعيد التفكير في المفاهيم والممارسات والسياسات الصحية من منظور فلسفي عميق ، يراعي العدالة والكرامة والقيم والحقوق والمجتمع ، وإنتاج فكر نقدي فلسفي في مجال الصحة والطب ، والإجابة الصريحة على الاسئلة السابقة ، وتحليل السياسات الصحية من منظور اخلاقي وانساني ، وصياغة سياسات عادلة وشاملة ، ولتعزيز الثقافة الصحية وحق الانسان في حياة صحية كريمة ، ولتأكيد أن الصحة حق وليست سلعة ، وصياغة مدونات أخلاقية صحية معاصرة تتجاوز القوانين التقنية وتدخل في صلب القيم الإنسانية ، وكشف الأبعاد المعرفية والثقافية والاجتماعية للمرض والصحة ، ورصد الظواهر السلبية مثل التمييز وانتهاك الكرامة والمتاجرة بالمرضى ، وتحصين المنظومة الصحية ضد التوحش التجاري ، وتضارب المصالح ، وتكوين أطباء وممارسين أكثر وعيًا وفهمًا وإنصافًا وضميرًا وكفاءة ومهارة ، وان المريض والطبيب المعالج شريكان وليس خصمان ، وضرورة احترام الخصوصية ، وحفظ الأسرار ، وحدود التدخل ، وإحترام الانسان حتى في أشد حالاته ضعفًا  .

إن إيجاد مؤسسة فكرية فلسفية للصحة والعدالة الإنسانية ليست ترفًا ، ولا مشروع نخبوي ، بل ضرورة إستراتيجية لمستقبل عادل وانساني في الطب والرعاية الصحية ، نابع من أخلاقيات المجتمع في زمن تتسابق فيه دول العالم على الأجهزة والتقنية الحديثة ، والذكاء الاصطناعي والخدمات الروبوتية ، والتطبيقات الذكية والرقمنة والتطبيب عن بعد ، والأساليب التمويلية الربحية ، يجب بناء ثقافة صحية جديدة تقوم على المهنة كرسالة ، وإعادة التوازن بين المعرفة والضمير والقرار في الطب ، وترسيخ نموذج الممارس الطبي والصحي الواعي والمسؤول والسوي والعادل ، ونظام صحي قوي ومتطور وفعال ومنصف ، وأن لا ننسى جوهر المهنة ( الانسان )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى