من الألم تولد الحكمة

د.علي المبروك أبوقرين
كان أجدادنا يروون قصصًا من واقعٍ مرّ ، حياةً بلا زخرفٍ ولا صحةٍ ولا علم ، أرضهم كانت قاحلة إلا من الصبر ، وليلهم طويلٌ إلا من الأمل ، ووجعهم رفيق الطريق ، لم يعرفوا المستشفيات ولا المراكز الصحية ولا التحاليل ولا الأشعة ، وعاشوا على حدّ الغريزة ، يحتمون بالله وبالأرض وببعض الأعشاب التي حفظت سلالات من الذاكرة ، والأوبئة والأمراض تجتاح القرى والنجوع ، وحين يشتدّ المرض كانوا يلجؤون إلى الكيّ بالنار ، أو إلى “الزار” لطرد الأرواح ، أو إلى تميمةٍ من جلدٍ مهترئٍ فيها آياتٌ وآمال ، وكانت الولادات في البيوت ، أو في الخلاء ، على يد قابلات حكيمات تمسكن بالحياة بيدٍ مرتجفةٍ وبقلبٍ مؤمن ، ولم يكن هناك طبيب ولا دواء ، بل إيمانٌ بأن الشفاء قدرٌ كالموت ، وأن المرض امتحانٌ لا علاج له إلا الصبر ، ومع ذلك كان في تلك الحياة القاسية صدقٌ ما ، وكانت الفطرة دليل البقاء ، وكانت المعاناة نقيةً بلا تزييف ، ولم يكن أحدٌ يبيع الوهم ، ولم يكن الألم تجارة ، ولم تكن الصحة امتيازًا طبقيًا ، وكانوا فقراء في الوسائل أغنياء في الضمائر ، وأما اليوم فقد صار المشهد أكثر عبثًا ، فالمدن امتلأت بالمستشفيات ، واللافتات تزدحم بأسماء الكليات الطبية ، والأطباء يتخرَّجون بالجملة ، ولكن المرضى أكثر من أي وقتٍ مضى ، والشفاء أبعد ما يكون كأننا انتقلنا من الجهل إلى الزيف ، ومن البساطة إلى الفوضى ، ومن القدر إلى الاستغلال ، والأدوية تلمع في الأسواق كالمجوهرات ، لكنها ملوثة بالربح والجشع والغش ، والعيادات الخاصة تستقبل الألم بالدينار في الداخل وبالدولار في الخارج ، والمريض يفاوض على حياته كما يفاوض التاجر على سلعة ، والناس لا يثقون في المستشفى العام ، ولا يقدرون على تكاليف الخاص ، فصارت الصحة حلمًا والمرض يقينًا والحياة احتمالًا ، والقطاع العام يشيخ مثقلًا بالبيروقراطية والإهمال ، والخاص يتضخم متخومًا بالطمع ، والتعليم الطبي أصبح تجارة ، والشهادات تُمنح كالجوائز ، والمستشفيات الجامعية مفقودة ، وفي كل زاوية مرضٌ يتكلم ، وفي الهواء ثلوث ، وفي الماء شك ، وفي الغذاء غشّ ، وفي الدواء موتٌ مؤجل ، حتى الرحمة أصابها العجز ، والضمير أصابه الصمم ، كأننا عدنا إلى زمن الأجداد ، لكن بلا صدقهم ،
وعاد الطاعون بوجهٍ عصري ، وعادت الكوليرا بعباءة النظام الحديث ، تغيّر شكل الوباء ، لكن الوجع هو ذاته وجع الإنسان الذي تُرك وحيدًا أمام مصيره ، بين جهل الأمس وعبث اليوم ، وهكذا نمضي في دوامةٍ من التناقضات نملك النفط ولا نملك الدواء ، ونفتح الجامعات في غياب الضمائر ، ونتحدث عن التنمية ونحن نغرق في المرض ، والناس يخافون ليس من الموت ، بل من أن يُعاملوا كأرقامٍ في قوائم المرضى ، لقد صار المرض مرآةً لفساد القيم ، وصارت الصحة شعارًا بلا معنى . ومع ذلك ، يبقى في هذه العتمة بصيص ضوء ، كما تبقى في صدر المريض رغبةٌ في الحياة ، والأمل لا يموت بل يختبئ وينتظر من يوقظه بإرادةٍ صادقة ورؤيةٍ جديدة ، وحين يدرك الجميع مسؤوليته ، وحين نفهم أن جودة الدواء ليست ترفًا بل شرفًا ، وأن الكوادر الصحية ثروة لا تُقدّر بالمال ، حينها فقط يبدأ الشفاء الحقيقي . وتمرّ الأجيال كما مرّ الأجداد ، ولكنّ من يدرك الحقيقة لن يكرر العبث ، ومن رماد المرض يمكن أن يولد الوعي ، ومن وجع الجسد يمكن أن تنهض الأمة ، وقد نروي للأجيال الجديدة سردية مختلفة .






