التعليم والمعرفة في الطب والصحة

د.علي المبروك أبوقرين .
المعرفة ليست تلقين ولا تجميع للمعلومات ولا حفظ آلي بل هي مسار تشكل للعقل وبناء للقدرة على الفهم والتقصي والتمييز وتحمل المسؤولية ، والتعليم رسالة أخلاقية قبل أن يكون تقنية ، وهذا المنطق حين يُنقل إلى مجال الصحة والطب يصبح أكثر إلحاح وخطورة ، لأن الخطأ هنا لا يُنتج جهل فقط بل يُنتج ألم وإعاقة وموت ، في الطب كما في التربية لا يكفي أن نُدرّس المعلومات بل يجب أن نُنشئ عقل طبي ناقد وقادر على طرح السؤال قبل وصف الدواء ، وعلى التحقق قبل اتخاذ القرار ، وعلى الشك العلمي قبل اليقين الزائف ، فالطبيب الذي لا يمتلك أدوات التفكير النقدي هو خطر مهما حفظ من كتب ومهما امتلك من أجهزة ، والفلاسفة والمفكرين والعلماء يؤكدون أن المعرفة الحقيقية لا تولد من الإجابة بل من السؤال ، وأن التقدم لا يتم عبر اليقين المطلق بل عبر الخطأ المصحَّح ، وهذا جوهر البحث العلمي ، وفي الطب هذا يعني أن الممارسة السليمة لا تقوم على بروتوكولات جامدة تُطبق بلا تفكير ، بل على دمج الدليل العلمي مع السياق الإنساني ، وعلى تحديث مستمر للمعرفة ، وعلى استعداد دائم لمراجعة القرار ، وغياب هذا المنهج يحول الطب إلى ممارسة ميكانيكية ، ويحول المستشفى إلى مصنع إجراءات ، وهنا تبدأ الفوضى ويُفتح الباب للتضخيم والتشخيص الزائد والعلاج الوهمي والمتاجرة بالألم ، والتعليم الطبي الحقيقي هو الذي يخرج أطباء فعليين وليس حملة شهادات يحفظون ولا يفهمون وينفذون ولا يسألون ، ويكررون ولا يبتكرون ، ويخضعون للسوق بدل أن يخضعوا لأخلاق المهنة والعلم ، ولذلك فإن التعليم الطبي الحقيقي لا يمكن أن يكون بلا مستشفيات جامعية حقيقية ، وتدريب سريري قائم على التفكير وليس على المشاهدة الصامتة ، وأساتذة يمارسون البحث وليس مجرد التدريس ، وثقافة تسأل لماذا؟ قبل كيف؟ والبحث الصحي يجب أن يكون إنتاج معرفي مسؤول ، وليس أداة بيروقراطية للترقية ، لأن حين يتحول البحث الطبي إلى أوراق للنشر فقط دون أثر على السياسات الصحية أو الممارسة السريرية يصبح شكل من أشكال الخداع المعرفي . أما حين يُربط البحث بحاجات المجتمع وبمشكلات الصحة العامة وبالوقاية وبجودة الرعاية فإنه يتحول إلى أداة إنقاذ . إن البحث الصحي في فلسفة المعرفة ليس ترف أكاديمي بل صمام أمان للنظام الصحي ، ووسيلة لضبط السوق وتحسين القرار ، ومنع العبث بصحة الناس ، وكما إن المؤسسة التعليمية يجب أن تحمي المتعلم من الجهل ولا تسلمه إليه ، فإن النظام الصحي يجب أن يحمي المريض من الفوضى ، لا أن يدفعه إليها ، لذلك إن نظام صحي بلا معرفة نقدية يُنتج أطباء بلا بوصلة ، ومؤسسات بلا مساءلة ،وسوق بلا ضوابط ، ومريض بلا حماية ، أما النظام الصحي المؤسس على فلسفة المعرفة فيقوم على قرار مبني على الدليل ، وتعليم مستمر وبحث مرتبط بالواقع ، ومريض شريك في الفهم وليس متلق خائف ، فالصحة إما أن تكون حماية للكرامة أو سوق للألم ، ولا يمكن لنظام صحي عادل أن يقوم دون تعليم طبي نقدي وبحث علمي مسؤول ، ومعرفة تُدار بالحكمة وليس بالمصالح ، وحين تُفصل الصحة عن المعرفة يتحول الطب إلى تقنية بلا روح ، وحين تُدار المعرفة بلا أخلاق يصبح التعليم خطر ، وحين تجتمع الحكمة والمعرفة تصبح الصحة حق .






