كتاب الرائ

اشتراكية المصطلح اللغوي القديم بين ليبيا ومصر

الدكتور عبدالعزيز سعيد الصويعي

اشتراكية المصطلح اللغوي القديم بين ليبيا ومصر
الدكتور عبدالعزيز سعيد الصويعي
أولاً مقدمة تمهيدية  ( تحديد مصطلحات الورقة )

لقد استخدم الكُتَّاب الغربيون المتأثرون بكتب العهد القديم مصطلحي  ( السامية والحامية ) فقالوا إن اللغات الكنعانية ( سامية ) لأصل , واللغة المصرية القديمة ( حامية ) الأصل  غير أن الكُتَّاب العرب اكتشفوا عدم جدوى هذا التوصيف ولكنهم احتاروا  في إعادة صياغته بماهو مناسب فقالوا عن اللغة الأم التي وُلِدَتْ من رحمها اللغة الأكدية بأنها ( لغة جزرية ) نسبة إلى الجزيرة العربية  أو ( اللغة العروبية ) لاشتمالها على كل الأصول اللغوية  للغات التي استخدمت في المشرق العربي أو ( اللغة العربية القديمة ) نظراً لانتماء اللغة العربية  الحديثةإليها إلا أننا فضلنا مصطلح ( اللغة العروبية ) لشموليته وإمكانية إطلاقه على كل اللغات التي سبقت اصطباغ تسمية ( عرب ) على سكان شبه الجزيرة وعندما نذكر هنا مصطلح ” عروبية ” لانقصد  به تلك الأفكار الانفصالية والأيدولوجيات القومجية التي صدّرها لنا الغرب بعد أن أنهكت كاهله بحروب  طويلة .

وهذه الحيرة في اختيار المصطلح المناسب للغة العروبية القديمة طالت أيضاً اللغة  التي تحدث بها قدماء ليبيا فأسماها البعض بــ ( اللغة الليبية القديمة ) نسبة إلى ليبيا بمفهومها الجغرافي والتاريخي القديم الممتد بين النيل والمحيط الأطلسي , وأسماها البعض  الآخر بــ ( اللغة النوميدية ) نسبة إلى نوميديافي عصرها التاريخي وهي بين تونس والجزائر الحاليتين , واعتبرها آخرون أنها من اللغات الأفروآسياوية لاشتمالها على آثار لغوية  مصرية  قديمة, وكذلك اسماها بعض الغربيين باللغة ماقبل البربرية Proto – berber ولكننا فضلنا مصطلح ( اللغة الليبية القديمة ) عند الحديث عن تلك اللغة التي لاتزال مجهولة  لدينا تماماً كما حصل مع ( اللغة العروبية الأم ) ثم مصطلح ( اللهجات الأزمازيغية ) الذي اختاره أحفاد قدماء الليبيين للتعبير عن لهجاتهم الحالية أو لهجات التماشق كما يفضل التوارق تسميتها والتي يعتقد أن كلها امتداد للغة  الليبية القديمة أو أنها تعطينا فكرة لابأس بها عما كان جارياً على أفواه أجدادنا الأوائل .

لايغربنّ عن البال أن سكان الكهوف الليبية في عصور ماقبل التاريخ كانوا من أصل كنعاني من بلاد جنوب الجزيرة وفلسطين وهذا يدعونا إلى الاعتقاد بوجود أثر كنعاني على لغة الليبيين الأولى , وإلى كنعان ينتسب كل العماليق الجبابرة الذين كانوا بفلسطين ثم انتشر قسم كبير منهم  بين مصر وليبيا .

وهذا الدمج بين الحضارتين الليبية والمصرية القديمتين يتضح أيضاً في علم اللغة المقارن حيث تتم دائماً مقارنة الألفاظ المصرية بألفاظ ليبية وقد أكد المؤرخون الأصول الكنعانية لسكان وادي النيل وبالتالي فالمقارنة بين اللغة الليبية واللغة المصرية تكون منطقية وذلك نظراً لانتمائها للغة الكنعانية , واللغة الليبية القديمة لم يتح لها الارتكاز على قاعدة ثابتة تنطلق منها وتتطور على أساسها , ولانقصد – هنا – القاعدة التاريخية وإنما نقصد القاعدة العلمية التي تُبنى عليها اللغات , فاللغة العربية – مثلاً – كانت لها قاعدة تاريخية امتدت لآلاف السنين ولكن قاعدتها العلمية  لم تُبنَ بوضوح إلا في عهد الإسلام عندما اهتم بها المسلمون وقيدوها بالضوابط العلمية  التي وضعت لها حدوداً منعت عنها التغريب والتشريق فاحتفظت بشخصيتها الخاصة طيلة الأربعة عشر قرناً الماضية .

كما أن اللغة العربية خرجت من طور اللهجة أو اللهجات القبلية إلى طور اللغة التي تخلصت من كل ما يُساء فهمه ويختلف في أمره , أما اللهجات فبقيت متأثرة ببعضها البعض أحياناً وباللغة الأم أحياناً أخر حتى اندثر بعضها وتغيّر مسار بعضها الآخر وذلك بحسب الحفاظ عليها أو نسيانها جزئياً أو كلياً, فاللغة المصرية بقيت آثارها البعيدة متمثلة جزئياً في لهجة الأقباط رغم المؤثرات اليونانية عليها.. أما اللهجات العربية القديمة فقد اندثر معظمها بذوبان قبائلها في المجتمع العربي الجديد الذي اتسع شرقاً وغرباً مع الفتح الإسلامي ولم يبقَ منها إلا بعض الظواهر اللغوية والمفردات القديمة التي في لهجات سكان الجزيرة جنوبيها وشماليها .

أما في الشمال الإفريقي فقد احتفظ سكانه بلهاجاتهم الأولى التي توارثوها أباً عن جد والتي يعود تاريخها إلى بداية  الوجود البشري على هذه الرقعة الممتدة من النيل شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً والتي أطلق عليها قدماء المصريين ثم الإغريق فيما بعد اسم ليبيا وعندما ارتحل الكنعانيون ( الفينيقيون) إلى إفريقيا الشمالية في الألف الأول قبل الميلاد اندمجوا في المجتمع الليبي القديم ومن ثم لم تعد اللهجة الفينيقية لهجة فينيقية خالصة ولم تبق اللهجات الليبية القديمة لهجات ليبية خالصة أيضاً وعلى هذا الأساس يشير البعض أن لهجات ليبيا من المحتمل أن يكون أصلها البعيد هو أصل اللغات ( السامية ) ويُرجع البعض الآخر اللهجات الليبية الحديثة إلى ثلاثة مصادر أساسية : اللهجة الزناتية  ( في كل من ليبيا وتونس والجزائر ماعدا القبائل ) واللهجة المصمودية ( لهجة شلوح المغرب بجبال الأطلس وبلاد السوس ) واللهجة الصنهاجية ( لهجة القبائل بالجزائر والتوارق بالصحراء ) .

من هنا, لايمكننا أن نسمي اللغة الليبية لغة بمفهومها المطلق لأنها كانت لهجات تقترب وتبتعد عن بعضها البعض بحسب قرب وبُعد القبائل الليبية ولكنها  – رغم كل ذلك – فهي متشابهة تماماً مثل لهجات العرب الأخرى قبل الإسلام , ونظراً لاتساع رقعة الشمال الإفريقي واختلاف مناخاته وتنوُّع تضاريسه تباعدت مراكز العمران مشكلة فجوات شاسعة بينها كما توغلت في أعماق الصحراء في بحث دائم عن الكلأ والماء , والتجأ بعضها الآخر إلى المغارات والكهوف متخذين من الجبال سكناً ومستقراً فصار بذلك لكل منهم لغته ولهجته الخاصة به, ولكنهم يتفقون في أساسيات لغوية معينة وهذه أكبر مقومات وحدة أجدادنا الليبيين القُدامى وأقوى مرتكزات حضارتهم .

في هذا المبحث لايمكننا الدخول إلى اللغة الليبية القديمة من باب القواعد العلمية  التي ترتكز أساساً على علوم النحو والصرف وما ينجر عنهما لأن تلك اللغة  لم تكن لغة بمفهومها العلمي الصرف بقدر ماهي مجموعة لهجات منحُوَّة ومُصرّفة بطرق تضمن فقط توصيل المفاهيم بين أصحابها دون الحاجة لتقييدها بالقواعد العلمية , لهذا السبب لايمكننا دراستها إلا من جانب الظواهر والخصوصيات والنظم الكلامية التي تميز تلك اللهجات عن اللغة العربية وذلك في غياب معرفتنا باللغة الليبية القديمة وقد أتاحت لنا اللهجات الأمازيغية أو التماشقية التارقية الحالية فرصة تكوين فكرة عامة عن تلك اللغة المجهولة والتي لانشك مطلقاً بأنها كانت امتداداً طبيعياً للغات العروبية التي عُرفت في الشرق العربي خصوصاً اللهجات العربيات التي ظلت لزمن طويل غير مقعّدة.

 

ثانياً : ظواهر لغوية عروبية لاتزال في الأمازيغية

من المعروف أن النصوص الليبية القديمة المعثور عليها قصيرة جداً إذ لم تتجاوز بضعة أسطر في النص الواحد وبالتالي لايمكننا دراستها إلا من خلال اللهجات الأمازيغية التي حافظ عليها سكان الشمال الإفريقي رغم  أنها لم تبقَ على حالها منذ آلاف السنين نتيجة التأثر الحاصل منذ العصور السحيقة إلى عصرنا الحاضر خصوصاً في فترة مابعد الفتح الإسلامي حيث حصل احتكاك مباشر واندماج مكثف بفضل وحدة الدين والعقيدة.

إن مقارنة أي لفظ أمازيغي أو تماشقي معين معاصر مع مثيله في اللغات العروبية الموغلة في القدم سيكون صعب البيان وذلك لعدم توافقهما على سلم التطور الزمني , لِذَا يمكننا في هذه الحالة الارتقاء بذاك اللفظ القديم إلى مستوى اللغة العربية الحالية المستمِدة جذورها من تلك اللغات العروبية القديمة لتتم مقابلته بلفظ متداول في اللهجات الأمازيغية الحالية وماينطبق على اللفظ ينطبق أيضاً على الظواهر اللغوية .

لايجوز لنا – والحال هكذا – أن نخترع قواعد علمية حديثة لفرضها على اللهجات الأمازيغية الحالية أو اللغة الليبية القديمة لأنها لم يسبق لها أن حُظيت بمثل هذه القواعد العلمية المدروسة كما حصل مع اللغة العربية منذ بداية الإسلام ولكن لايجوز لنا استخراج الظواهر الكلامية بهدف مقارنتها مع الظواهر القديمة أو الوسيطة والتي لم ترق – هي الأخرى – إلى مستوى علوم النحو والصرف في تلك الأزمان السحيقة كما لايجوز لنا دراسة كل الظواهر في هذه العجالة حيث سنكتفي بقدر منها فقط لبيان الصلة اللغوية بين اللغات العروبية القديمة واللهجات الأمازيغية الحالية مما سينعكس– بطبيعة الحال – على فهم بعض خصوصيات اللغة الليبية القديمة .

وللشبه بين اللغة الليبية والمصرية القديمتين يصرّح أحدهم أن اللغة المصرية تشبه اللغات ( السامية ) في كثير من القواعد إلا أنها قريبة جداً في أصول مفرداتها إلى لغات ( البربر) وإفريقيا الشرقية إلا أنه من جانب آخر هناك قواسم مشتركة بين اللغة الليبية القديمة ومثيلاتها العروبيات الأخرى كالأكديةوفروعها , لنتابع هذه الأمثلة  من اللهجات الأمازيغية التي لانجد لها مكافئاً صريحاً في اللغة العربية الحالية مما يدل على قدمها وأيلولتها إلى اللغة الليبية القديمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى