المؤشرات الصحية

د.علي المبروك أبوقرين
إن الأوطان لا تقاس بارتفاع مبانيها ولا بحجم موازناتها ولا بعدد قراراتها ، بل بما تودعه في حياة الإنسان من كرامة ، وبما تمنحه لصحته من معنى ، وما توفره له من طمأنينة ، ولجسده من رعاية ، ولعقله من فهم ، ولأمله من نافذة لا تغلق ، فالصحة ليست خدمة حكومية تُقدم ولا إجراءً طبياً يُنفذ ولا نظاماً إدارياً يدار ، بل هي فلسفة وجود وغاية حياة وصوت ضمير يُعلن أن الإنسان هو أثمن ما تملك الأوطان ، وأن رعاية صحته هي أعلى مراتب التحضر وأصدق مقاييس النهضة ، فالصحة ليست سريراً في مستشفى ، بل مسار حياة يبدأ من رحم أم آمنة وينتهي إلى شيخوخة كريمة ، مروراً بطفولة مطمئنة ، ومراهقة محفوظة ، وشباب فاعل ، ورشد منتج ، وعمر طويل لا يقاس بسنواته وإنما بجودته وطيب سكينته ، وإن قياس صحة الدول لا يكون بصخب الشعارات ولا الصور المنسقة في تقارير المؤتمرات ، بل بمؤشرات صادقة تنبض بالواقع وتكشف ما وراء الستار ، مؤشرات تسائل الضمير قبل الجداول ، وتبحث عن الحقيقة قبل المجاملة ، فتسأل كم طبيباً لكل ألف من السكان؟ ، وكم ممرضةً لكل سرير؟ ، وكم اختصاصياً مقابل كل مرض نادر أو مزمن أو متزايد؟ ، وما حجم التوازن بين تخصصاتنا المتراكمة وتلك الغائبة عن ساحات الحاجة؟ وما مدى كفاءة التعليم الطبي والصحي ، وقيمة الشهادات ، وثِقل التدريب السريري ، وصدق البحث العلمي وتأثيره في السياسات لا في سير الألقاب؟ وتسأل عن أعداد الأسرة مقارنة بعدد المواطنين والتجمعات ، وعن زمن الوصول للخدمة قبل أن يسكت القلب أو يفقد الدماغ آخر خيط في الوعي ، وعن سرعة الاستجابة في لحظة الطوارئ حين تصبح الدقيقة الواحدة عمراً خامساً بين الحياة والموت ، وتمتد المؤشرات لتقرأ سجلات الموت قبل أن تفتش عن شهادات الميلاد ، لتسأل عن وفيات الرضع والأطفال والأمهات ، وعن متوسط الأعمار ، وعن حجم الأمراض المزمنة التي تتسلل من تراكم الغذاء الفاسد ، والهواء الملوث ، والعمل الخانق ، والقلق والتوتر الممتد ، والصمت النفسي العميق ، وتفتش خلف قوائم الانتظار التي تقف فيها الأرواح في طوابير أطول من قدرتها على الاحتمال ، تنتظر سريراً أو جهازاً أو موعداً أو دواءً أو قراراً ينتمي للإنسان لا لبيروقراطية الأوراق ، وتبحث المؤشرات عن الإنفاق الصحي لتسأل بجرأة مؤلمة هل هو استثمار في الوقاية والعلاج والبحث والتطوير والجاهزية ، أم هو هدر متقن ، وتكدس وظيفي ، وشراء معدات بلا تدريب ، وتعطل متعمد ، وضياع أدوية وانتهاء صلاحياتها قبل أن يلامسها مريض؟ وهل الإنفاق الحقيقي يصرف لحماية الإنسان من المرض أم لتزيين التقارير المالية بمداد المحاسبة لا روح العدالة؟ ثم تسأل بعمق موجع كم يدفع المواطن من جيبه؟ وهل يقرض نفسه كي يبقى حياً؟ وهل يتحول المرض إلى تجارة والدواء إلى استثمار والقلب إلى وثيقة ضمان؟ وتسأل المؤشرات عن الرضا الصحي لا عبر استبيانات جاهزة ، بل عبر نبض العيون ، فتبحث عن ابتسامة مريض خرج ممتناً لا مكسوراً ، وعن طبيب يعمل بكرامة لا باحتراق مهني ، وعن ممرض لا يقف بين الواجب والتعب بلا سند ، وعن فريق صحي يشعر أن جهده رسالة لا عقوبة ، وأن مكان العمل مقعد شرف لا آلة طحن بشرية ، فتقاس التجربة العلاجية لا بنتيجة العملية وحدها بل بحوار الرحلة من أول سؤال إلى آخر قطرة دمعة ، ويصبح المريض شريكاً لا جسداً ممتد على سرير ، وتًطل المؤشرات على الصحة النفسية والعقلية ، تلك الحرب الصامتة التي لا تُسمع فيها صرخات الانهيار ، فتسأل عن حجم الاكتئاب والقلق، والإدمان والانتحار والزهايمر والعزلة الاجتماعية ، وتستمع جيداً لصمت من تعبوا من الصراخ ، فالصحة ليست تشريح الجسد وحده بل تفكيك عًقد النفس . وتتعمق المؤشرات لتقرأ في تفاصيل الحياة اليومية ما هو أخطر من ملفات الطب ، فتسأل عن نسب الولادة القيصرية التي تجاوزت منطق الحاجة إلى رفاهية الوهم ، وعن استهلاك المضادات الحيوية حد فقدان فعاليتها ، وعن طغيان الطعام فائق التصنيع والسكريات والمشروبات الغازية على موائد الفقراء والأغنياء سواء ، وعن نسب التدخين والكحوليات والمخدرات التي تتسلل كعقود بطيئة للموت ، وتسأل المؤشرات ما حال السكن؟ والماء؟ والهواء؟ والدواء؟ والغذاء؟ والعمل؟ والدراسة؟ والطرق؟ وهل يعيش الناس في بيئات صحية لا تسمم أرواحهم قبل أجسادهم؟ ثم تُفتش عن العدالة الصحية هل هي حق للجميع؟ أم امتياز لمن يملك الباب الخلفي؟ وتسأل عن الأدوية المغشوشة والمهربة ، وعن الشهادات المضروبة ، وعن ازدواجية العمل العام والخاص وعن تضارب المصالح الذي يلطخ ثوب المهنة الأبيض ، وعن جودة الخدمات وسلامة المرضى ومكافحة العدوى لا كشعارات بل كتطبيق حي ، ثم تتقدم المؤشرات نحو المستقبل لتسأل عن الكشف المبكر والترصد الوبائي ودقة البيانات ، وعن قياس النتائج العلاجية قبل وبعد ، وعن مسار إعادة التأهيل والتعافي والدخول من جديد في حياة منتجة ، وعن مؤشرات العافية والرفاه وجودة الحياة لا مجرد عمر طويل بلا طعم ، وتبحث عن مفهوم دورة الحياة الصحية منذ اللحظة الأولى للتكوين حتى آخر نفس بطمأنينة ، وفي ختام مقالتي هذه أؤكد أنه لا تُكتب نهضة صحية في أرض لا تستثمر في بناء الإنسان ، وتعليمه الصحي منذ الطفولة حتى أعلى درجات التخصص ، ولا تؤسس كليات طبية بمناهج تفاعلية ذكية ومراكز محاكاة ومختبرات ابتكار ومستشفيات جامعية حقيقية وبحوث ذات قيمة عالمية ، ولا تُجرم التعليم التجاري وبيع الشهادات وتزوير المستقبل ، فليس أخطر من طبيب غير مؤهل ، ولا أقسى من وطن يضع مصيره الصحي بيد مهنة تُباع وتُشترى ، وستظل ليبيا وكل أرض تحلم بالنهضة ، قادرة على كتابة فصل جديد من مجد الصحة ، حين تدرك أن الحياة أثمن من النفط ، وأن الإنسان هو الثروة الوحيدة التي لا تنضب ، وأن الحق في الصحة ليس بنداً في الدستور بل وعداً مقدساً لا يجوز خيانته ..




