كان أجدادنا يروون قصصًا من واقعٍ مرّ ، حياةً بلا زخرفٍ ولا صحةٍ ولا علم ، أرضهم كانت قاحلة إلا من الصبر ، وليلهم طويلٌ إلا من الأمل ، ووجعهم رفيق الطريق ، لم يعرفوا المستشفيات ولا المراكز الصحية ولا التحاليل ولا الأشعة ، وعاشوا على حدّ الغريزة ، يحتمون بالله وبالأرض وببعض الأعشاب التي حفظت سلالات من الذاكرة ، والأوبئة والأمراض تجتاح القرى والنجوع ، وحين يشتدّ المرض كانوا يلجؤون إلى الكيّ بالنار ، أو إلى “الزار” لطرد الأرواح ، أو إلى تميمةٍ من جلدٍ مهترئٍ فيها آياتٌ وآمال ، وكانت الولادات في البيوت ، أو في الخلاء ، على يد قابلات حكيمات تمسكن بالحياة بيدٍ مرتجفةٍ وبقلبٍ مؤمن ، ولم يكن هناك طبيب ولا دواء ، بل إيمانٌ بأن الشفاء قدرٌ كالموت ، وأن المرض امتحانٌ لا علاج له إلا الصبر ، ومع ذلك كان في تلك الحياة القاسية صدقٌ ما ، وكانت الفطرة دليل البقاء ، وكانت المعاناة نقيةً بلا تزييف ، ولم يكن أحدٌ يبيع الوهم ، ولم يكن الألم تجارة ، ولم تكن الصحة امتيازًا طبقيًا ، وكانوا فقراء في الوسائل أغنياء في الضمائر ، وأما اليوم فقد صار المشهد أكثر عبثًا ، فالمدن امتلأت بالمستشفيات ، واللافتات تزدحم بأسماء الكليات الطبية ، والأطباء يتخرَّجون بالجملة ، ولكن المرضى أكثر من أي وقتٍ مضى ، والشفاء أبعد ما يكون كأننا انتقلنا من الجهل إلى الزيف ، ومن البساطة إلى الفوضى ، ومن القدر إلى الاستغلال ، والأدوية تلمع في الأسواق كالمجوهرات ، لكنها ملوثة بالربح والجشع والغش ، والعيادات الخاصة تستقبل الألم بالدينار في الداخل وبالدولار في الخارج ، والمريض يفاوض على حياته كما يفاوض التاجر على سلعة ، والناس لا يثقون في المستشفى العام ، ولا يقدرون على تكاليف الخاص ، فصارت الصحة حلمًا والمرض يقينًا والحياة احتمالًا ، والقطاع العام يشيخ مثقلًا بالبيروقراطية والإهمال ، والخاص يتضخم متخومًا بالطمع ، والتعليم الطبي أصبح تجارة ، والشهادات تُمنح كالجوائز ، والمستشفيات الجامعية مفقودة ، وفي كل زاوية مرضٌ يتكلم ، وفي الهواء ثلوث ، وفي الماء شك ، وفي الغذاء غشّ ، وفي الدواء موتٌ مؤجل ، حتى الرحمة أصابها العجز ، والضمير أصابه الصمم ، كأننا عدنا إلى زمن الأجداد ، لكن بلا صدقهم ،
وعاد الطاعون بوجهٍ عصري ، وعادت الكوليرا بعباءة النظام الحديث ، تغيّر شكل الوباء ، لكن الوجع هو ذاته وجع الإنسان الذي تُرك وحيدًا أمام مصيره ، بين جهل الأمس وعبث اليوم ، وهكذا نمضي في دوامةٍ من التناقضات نملك النفط ولا نملك الدواء ، ونفتح الجامعات في غياب الضمائر ، ونتحدث عن التنمية ونحن نغرق في المرض ، والناس يخافون ليس من الموت ، بل من أن يُعاملوا كأرقامٍ في قوائم المرضى ، لقد صار المرض مرآةً لفساد القيم ، وصارت الصحة شعارًا بلا معنى . ومع ذلك ، يبقى في هذه العتمة بصيص ضوء ، كما تبقى في صدر المريض رغبةٌ في الحياة ، والأمل لا يموت بل يختبئ وينتظر من يوقظه بإرادةٍ صادقة ورؤيةٍ جديدة ، وحين يدرك الجميع مسؤوليته ، وحين نفهم أن جودة الدواء ليست ترفًا بل شرفًا ، وأن الكوادر الصحية ثروة لا تُقدّر بالمال ، حينها فقط يبدأ الشفاء الحقيقي . وتمرّ الأجيال كما مرّ الأجداد ، ولكنّ من يدرك الحقيقة لن يكرر العبث ، ومن رماد المرض يمكن أن يولد الوعي ، ومن وجع الجسد يمكن أن تنهض الأمة ، وقد نروي للأجيال الجديدة سردية مختلفة .
شهدت العاصمة الكينية نيروبي، خلال الفترة من 17 إلى 22 نوفمبر 2025، انعقاد المؤتمر العالمي…
د.علي المبروك أبوقرين هناك لحظة حرجة في تاريخ الأمم تتوقف فيها عقارب الساعة على سؤال…
إن القطاع الصحي العام ليس مجرد مؤسسات تقدم العلاج أو تُدار بالموازنات السنوية ، بل…
د.علي المبروك أبوقرينإن الأوطان لا تقاس بارتفاع مبانيها ولا بحجم موازناتها ولا بعدد قراراتها ،…
جلال عثمان قد يتساءل البعض عن سبب اختيار مكان خارج ليبيا لانعقاد هذا الاجتماع التأسيسي…