كتاب الرائ

مجلة (العربي) الكويتية والشعر الليبي

يونس شعبان الفنادي

مجلة (العربي) الكويتية والشعر الليبي

يونس شعبان الفنادي

[email protected]

 

تعتبر مجلة (العربي) المصورة الكويتية من أعرق المطبوعات العربية التي واصلت إشعاعها وتنويرها الثقافي والمعرفي طوال عقود زمنية طويلة منذ صدورها الأول في ديسمبر 1958. وقد عرفت هذه المجلة العريقة بانحيازها إلى الأدب بأجناسه المتعددة كالشعر والقصة واللقاءات والحوارات الصحفية الجادة والممتعة، خلافاً لإصدارات أخرى غيرها انغمست في الوحل السياسي أخباراً وتحليلات وتكهنات، وتبني لتيارات سياسية متصارعة أو فكرية متباينة.

ومنذ صدورها غطت هذه المجلة الشهرية موضوعات متنوعة، وتجولت في العديد من الربوع والأمصار والأقطار العربية وغير العربية، وتناولت آداب وثقافات شعوب وأمم كثيرة ضمن أبوابها الثابتة وأركانها الصحفية وزاويا كتابها المخضرمين المميزين. وتعد زاوية (جمال اللغة العربية) للشاعر والأديب المصري الراحل فاروق شوشة من أبرز وأمتع أركان هذه المجلة التي أبان فيها الراحل رحمه الله جماليات اللغة العربية من خلال عرضه لقراءات أدبية وشعرية كثيرة ومتابعات لإصدارات دواوين في جميع أشكال الشعر الكلاسيكي التقليدي والمتجدد بأنواعهما.

وإن كانت قراءاتُ الأديب الراحل فاروق شوشة لاتجاهات وجماليات النصوص الشعرية الليبية ومبدعيها في ركنه الثابث الشهير (جمال اللغة العربية) بهذه المجلة قليلة ولا تتسم بالغزارة أو الاستمرارية أو التوسع بفكره النقدي الثاقب للغوص فيها مقارنة بشعراء الخليج ومصر والشام، إلاّ أنه خلال تصفحي للعدد رقم (637) من مجلة العربي الصادر في شهر ديسمبر 2011 وجدتُه يتناول في عنوانه الفرعي “إبداعُ لغة: شاعـر من ليبيا” قصيدة الشاعر الدكتور عبدالمولى البغدادي (أشواقٌ عربيةٌ مهاجرةٌ إلى الحبشة) المنشورة بديوانه الوحيد (على جناح نورس) بعد أن قدمه للقراء العرب بشكلٍ موجزٍ شاملٍ ووافٍ، حيث يصفُ شعره بقوله: (يتميز شعر البغدادي بطول النفس، والوعي الكبير بجماليات الشعر العربي عبر عصوره التاريخية المختلفة، واصطناع لغة شعرية لها سلطتها وقدرتها على لفت الانتباه، وجذب المتلقي إلى تأمل عناصرها البنائية، وقدرتها على الإدهاش في بعض المواضع، بالإضافة إلى النزعة الأسطورية التي أعطت لشعره مذاقاً خاصاً يميزه عن غيره من الشعراء الليبيين، وأتاحت مساحة لمعجم شعري مغاير، تتناثر مفرداته في ثنايا بعض قصائده، طبقاً لما يستوعبه وعيه الثقافي والشعري والفني).

ثم يسترسل الأديب الراحل فاروق شوشة في قراءته البسيطة والتعريفية القصيرة للقصيدة الطويلة الرائعة التي تقع في واحدٍ وثمانين بيتاً مبتداءً بمستهل بيتها الأول الجميل الذي يقول:

سَلِي جُفُونَكِ يَا سَمْراءُ

مَا فَعَلَتْ بِنَازِحٍ غَــرَّهُ فِي دَرْبِّكِ السَّفرُ

وفي نهاية مقالته حول قصيدة شاعرنا عبدالمولى البغدادي يقول الراحل فاروق شوشة (وفي ختام هذه القصيدة – التي تمثل إنجازاً شعرياً يُحسبُ لصاحبها، وصفحةً بديعةً من صفحاتِ الشعر الليبي الذي لا نكاد نعرف عنه إلا بضعة نصوص متناثرة لقلةٍ من الشعراء هم عمادُ حركتها الشعرية الحديثة والمعاصرة – في ختام هذه القصيدة – التي تمثل خصائص شعره وقسمات شاعريته ومجلى انطلاقه محلقاً في فضاءٍ شعري عريض، مثقلٍ بالإيحاءات والرموز والدلالات، التي تلتمع في ثناياه كاشفة عن موهبةٍ غيرِ عاديةٍ، ورؤيةٍ مثقلةٍ بالتاريخ ِوالتطلع إلى المستقبل). وبعد أن يعرض حوالي سبعين بيتاً من هذه القصيدة الطويلة ينهي قراءته بخاتمة القصيدة وأبياتها التالية:

لاَ عيبَ في قدمٍ زلّت بها حفرٌ

لكنما العيبُ إن راقت لها الحفرُ

قد يؤثر الدهرُ إنساناً بمحنته

فيبتليه بما لا يرغبُ البشرُ

فلنحتفل بهوانا رغم محنتنا

فالحبُّ آخرُ ما يغتاله القدرُ !

 

أما في مقالته المعنوانة (قراءةٌ في مختارات من الشعر العربي في القرن العشرين) المنشورة بالعدد رقم (651) فبراير 2013 على الصفحات (163- 167) فيتناول الراحل فاروق شوشة تسليط الضوء والتعليق على بعض المختارات الشعرية لكل من سلطنة عُمان، وقطر، وليبيا، اقتبسها من المجلد الثالث الصادر للمختارات الشعرية لمؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين الكويتية.

 

وفي تقديمه القصير لقراءته النقدية للشعر الليبي يستهلها بسؤاله المباشر (إلى أي حد تختلفُ مختاراتُ الشعر الليبي التي يتضمنها هذا المجلد الكبير “مختارات من الشعر العربي في القرن العشرين”؟). ويقدم لنا فهمه وتحليله لإجابة ذاك السؤال وتبريراتها فيقول (يجيب الباحثان الليبيان: الدكتور عبدالحميد الهرامة وعمار محمد جحيدر، بما يشير إلى أن الاختلاف ليس كبيراً، باستثناء الجهد الكبير الذي قام به في مجال الجمع والتحقيق والدراسة والإحصاء، “لأن الشعر المخطوط في ليبيا ظل أعلى بكثير من القدر المنشور منه حتى منتصف القرن الماضي، وحالت ظروف مختلفة دون نشره، منها إحجام كثير من الشعراء أنفسهم عن النشر تواضعاً، أو مراعاة لظروف إجتماعية أو سياسية مختلفة عبر عقود القرن العشرين وتقلباته الإدارية والاجتماعية، وأحياناً لعدم الثقة في العمل الأدبي، أو لعدم وجود الإمكانات المشجعة على النشر، وبخاصة في أوائل القرن. ولولا إصرار مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري على الاهتمام بالشعر الليبي من خلال هذين الباحثين ما تمت استجابتهما بالسرعة المطلوبة، في ظل الرعاية الأبوية الخيرة والأستاذية الكريمة للأديب العربي الكبير أبي القاسم محمد كرو، الذي يرجع إليه الفضل في جمع ديوان الشاعر التونسي الخالد أبي القاسم الشابي ونشره.)

 

وأرى أن في هذا النقل أو القول للأديب الراحل فاروق شوشة تجنياً وظلماً كبيراً ونكراناً للعديد من الجهود البحثية والتجميعية التي قام بها دارسون وكُتاب وبحاث وأدباء ليبيون وغيرهم حول الشعر الليبي، لعل أبرزهم مؤلف الأستاذ محمد الصادق عفيفي (الشعر والشعراء في ليبيا) لرصد وتناول بعض اتجاهات وأغراض الشعر الليبي ومدارسه وتطوراته، قبل صدور مجلد مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين سنة 2001 بعقود زمنية بعيدة. وكان قد صدر المجلد الثالث من (مختارات من الشعر العربي المعاصر في القرن العشرين) بالتزامن مع ظهور الجزء الأول من (معجم الشعراء الليبيين) للباحث عبدالله سالم مليطان، وهو وإن كان جهداً فردياً لا مؤسساتياً، فقد تضمنت مقدمته (المبتدأ..في المعجم والمنهج) إحالات وإشارات مهمة لكل باحث ودارس للشعر الليبي وأشكاله التقليدية والحديثة المختلفة، إضافة إلى توضيحات مستفيضة حول مسيرة الشعر الليبي وتطوراته منذ صدور أول ديوان شعري مطبوع في ليبيا، وكم تمنيت لو أن الراحل فاروق شوشة قد طالعها ورجع إليها أثناء إعداده وكتابة قراءته عن الشعر الليبي المنشورة في مجلة العربي الكويتية.

 

ثم يضمّن الراحل فاروق شوشة تلك القراءة أربعة مقاطع من قصيدة (إيماءات) للشاعر الراحل محمد الفقيه صالح، وكذلك أربعة مقاطع من قصيدة (هدهدة) للدكتور الراحل علي فهمي خشيم، ويختتم قراءته بتعليق على هذين النصين الشعريين الليبيين يقول فيها (هو شعر يحمل ملامح التأثر بالشعر الرومانسي وتياره الرئيسي الذي عُرف باسم جماعة “أبولُّو” في مصر، وكان يضم من بين شعراء تونس الطليعيين الشباب الشاعر أبا القاسم الشابي، وكانت له لغته ومعجمه الشعري، وعالمه من الصور التي مبحثها الفتنة بالطبيعة وإعادة اكتشافها من منظور عاطفي وجودي، وخيال شعري محلق، يدفع بالشعراء إلى التجسيد وتراسل الحواس).

ويبدو لي بكل أسف أن الأديب الراحل فاروق شوشة لم ينتبه إلى أن مجلد (مختارات من الشعري العربي المعاصر في القرن العشرين) الصادر عن مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين إحتفاء بمدينة الكويت عاصمة الثقافة العربية سنة 2001، يطاله الكثير من النقد بشأن منهجية إعداده ويفتقد الكثير من الدقة في مختاراته الشعرية، وكم تمنيتُ لو أن الأديب الراحل أشار إلى تلك المسائل التي تشينه، وسلط الضوء على غياب المعايير في الاختيارات التي ضمها مجلد المختارات ومن بينها مثلاً إدراج الدكتور علي فهمي خشيم ضمن الشعراء الليبيين، وهو رحمه الله لم يطرح نفسه شاعراً ربما لأنه لا يملك تجربة شعرية غزيرة ثرية متراكمة، ولافتة في مدونات الشعر الليبي بل ظلت نصوص قصائده قليلة مبعثرة بين المجلات والمطبوعات، حتى أنه لم يصدرها في ديوان جامع، كما أن جميع معاجم الشعراء الليبيين لم تدونه ضمن شخصيات وأسماء تراجمها باعتبار أن انتاجه الفكري الكبير والأدبي النثري القيّم ظل هو الأوفر والأكثر بروزاً وظهوراً وتعريفاً به.

 

وإجمالاً ففي تصوري أن نصوص القصائد الشعرية الليبية التي تم اختيارها ونشرها بالجزء الثالث الصادر لذاك لمعجم الذي يضم إضافة إلى ليبيا كلاً من (سلطنة مسقط وعمان، قطر، مصر) لم تكن وافية لتقديم صورة حقيقية عاكسة للمشهد الشعري الليبي، ويكفي للتدليل على قصور منهجية ومعايير الاختيار التي اعتمدها فريق إعداد المعجم أنها كانت ذكورية بالكامل، أي تناولت حوالي أربعين شاعراً ليبياً من الذكور دون الإناث، وبالتالي لم يمنح المجلد صفحة واحداً لأية شاعرة ليبية بينهم، وهذا عيب منهجي واضح وجسيم، فيا ترى هل هو تقليلٌ لأهمية شعر المرأة الليبية أو نسيان وإغفال عن المساهمات الشعرية النسائية في المشهد الإبداعي الليبي أم تجاهل وتناسي لها ممنهج؟!!.

 

وأخيراً حتى وإن ظل استعراض الراحل فاروق شوشة لبعض النصوص والقصائد من ديوان الشعر الليبي معتمداً على ما ورد بالمجلد الثالث (مختارات من الشعر العربي المعاصر في القرن العشرين) الصادر سنة 2001 عن مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين دون غيره من المصادر والمراجع الأخرى، فإنه يُعدُ بلا شك إسهامٌ مهمٌ في التعريف بالشعراء الليبيين ونصوصهم وتمكين قراء مجلة العربي على امتداد ساحة الوطن الكبير وخارجه، من مطالعة مضامينها الموضوعية وتقنياتها الفنية، ولكن بالتأكيد لم يوفق الأديب الراحل فاروق شوشة في اختيار نماذج من الشعراء الليبيين، وكان بإمكانه تناول نصوص أعمق مضموناً وأفضل صنعةً، لشعراء أكثر انتساباً للجنس الشعري مثل الراحل محمد الشلطامي وعلي صدقي عبدالقادر وراشد الزبير السنوسي ورجب الماجري وسميرة البوزيدي وفوزية شلابي ومريم سلامة وحواء القمودي ولطفي عبداللطيف وسالم العوكلي وآخرين أغزر نصوصاً وإنتاجاً وأكثر حضوراً في المشهد الشعري الليبي. رحم الله الأديب فاروق شوشة .. وشكراً لمجلة العربي الكويتية التي ستظل منارة نهتدي بها لنهل الكثير من العلوم والمعارف والثقافات التي تحصن فكرنا وتهذب خلقنا وترتقي بذائقتنا الأدبية والفكرية.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى