لا أثر للفراشات – قصة قصيرة للكاتب/ فتحي نصيب

حينَ يَسْتَولي اللَّيلُ على السَّماءِ، وعندَ اكتمالِ القمرِ مِنْ كُلِّ شهرٍ، تُقامُ “حَضْرَةٌ” في بيتِ جارِنا، وفيما يَنْهَمِكُ الرِّجالُ بالمَدَائِحِ والابتهالاتِ والتسابيحِ، ضاربينَ البَنادِيرَ والدُّفوفَ، يَشْرَعُ شيخُ الطريقةِ بالإنشادِ :
” يا اللهُ يا كلَّ مَن دارَ بِيّا زِيدوا الصَّلاةَ على خيرِ البريَّة ”
عندها كانت الأمهاتُ يَصْطَحِبْنَ بَناتِهِنَّ العَذارى صَوْبَ شَجَراتِ الخَرُّوبِ الثَّلاثِ دائماتِ الخُضْرَة، اللاتي يَحْتَضِنَّ بَعْضَهُنَّ بَعْضًا، فلا تكادُ عشرُ أذرعٍ تُحيطُ بجذعِ واحدةٍ منهنَّ.
تَشابَكَتْ غُصُونُها لِتُكَوِّنَ تَجْوِيفًا كالكَهْفِ امْتَلَأَ بآلافِ الخُيُوطِ القُطْنِيَّةِ والصُّوفِيَّةِ المُلَوَّنَة.
يقولُ العارفونَ إنَّهُنَّ أَقْدَمُ مِنْ قريتهم (تاكنس) نَفْسِها ولَهُنَّ قُدْرَةٌ على شِفاءِ المَرْضى، لذا قَصَدَها للتَّبَرُّكِ والاستشفاءِ المَفْلُوجُونَ والمَصْدُورُونَ والمَكْفُوفُونَ، وكذلكَ المُتَسَوِّلُونَ والعاطِلُونَ عن العَمَلِ والعاشِقُونَ مِنْ طَرَفٍ واحِدٍ، لِجَلْبِ الحَظِّ وَدَرْءِ البَلاءِ.
حينَ يَشْتَدُّ مَقامُ الوَجْدِ والهُيامِ بالمُريدينَ تَسْري نَفَحاتُ التَّجَلِّي؛ فيمشي البَعْضُ على الجَمْرِ أو يَبْتَلِعُ الأَسْياخَ المُحَمَّاةَ أو يَبْعَجُ بَطْنَهُ بِنَصْلِ السَّيْفِ.
كُنْتُ وَابْنَ عَمِّي نَتَسَلَّلُ مِنَ الحَضْرَةِ وَنَقْصِدُ شَجَراتِ الخَرّوبِ، يَقُودُنا الفُضُولُ لِمُشاهَدَةِ الطُّقُوسِ الّتي تستهلها الأُمَّهاتُ بِتَحْمِيمِ بَناتِهِنَّ العَذارى، وَدَهْنِ أَجْسادِهِنَّ بِزَيْتِ الزَّيْتونِ وَإِشْعالِ البَخُورِ، ثُمَّ تَنْسِلُ كُلُّ واحِدةٍ مِنْهُنَّ خَيْطًا مِنْ ثَوْبِها، وتَعْقِدُهُ في طَيَّاتِ الجُذُوعِ أَمَلًا في الحُصُولِ على زَوْجٍ صالِحٍ في أَقْرَبِ وَقْتٍ .
كُنْتُ وَابْنَ عَمِّي نَجُوسُ خِلالَ الشَّجَراتِ، نتلصص لِاخْتِيارِ الزَّاوِيَةِ الّتي يَنْثالُ مِنْها ضَوْءُ القَمَرِ لِمُشاهَدَتِهِنَّ وَهُنَّ يَتَحَرَّكْنَ كالحُورِيَّاتِ الفِضِّيَّةِ وَسْطَ العَتْمَةِ وَأَبْخِرَةِ الدُّخانِ.
كانت مِيرَة أَجْمَلَهُنَّ، ذاتَ شَعْرٍ يَصِلُ إلى كاحِلَيْها، لَها مِشْيَةٌ غَزَلانِيَّةٌ، صَوْتُها كَهَدِيلِ الحَمامِ، وَتَسْبِقُها دائِمًا رائِحَةُ الزَّنْبَقِ أَيْنَما حَلَّتْ.
وُلِدَتْ في أُسْرَةٍ يَعْمَلُ أَبُوها بِإِفْراغِ خَزّاناتِ بُيُوتِ الرّاحَةِ وَنَقْلِها في عَرَبَةٍ يَجُرُّها بِنَفْسِهِ إلى المُكَبِّ خَارِجَ القَرْيَةِ، وَتَبِيعُ أُمُّها خُبْزَ التَّنُّور في سوقِ الجُمُعَةِ، أَمَّا هي فَقَدْ بَرَعَتْ في صُنْعِ العُقُودِ وَالمَسابِحِ مِنْ لُبِّ الزَّيْتونِ وَالغِناءِ بِنَغْمَةٍ لا تَسْمَعُها إِلَّا العَصافِيرُ.
انْقَسَمَ النّاسُ حَوْلَها وَانْتَشَرَتِ الأَقاوِيلُ، فَفَرِيقٌ يَقُولُ “جَمالُها آيَةٌ فَسُبْحانَ الخالِقِ”
.“ إِنَّ كُلَّ ما تَمَسُّهُ يَخْضَرُّ، حَتَّى لَوْ كانَ عُودًا يابِسًا“و
.“ لَها القُدْرَةُ على تَرْوِيضِ أَيِّ جَوادٍ جامِحٍ بِلَمْسَةٍ مِنْ كَفِّها على خطمه“و
.“إِذا زَغْرَدَتْ فَإِنَّ الفَراشاتِ السّارِحَةَ تَهْجُرُ الحُقُولَ وَتَلْتَفُّ حَوْلَها“و
وَقَالَ آخَرُونَ ” إِنَّ جَمالَها وَحْشِيٌّ؛ لِأَنَّ أُمَّها حَبِلَتْ بِها لَيْلَةَ اكْتِمالِ القَمَرِ – حَيْثُ يَتَزَاوَجُ الإِنْسُ مَعَ الجِنِّ – عِنْدَما كانَتْ تَعْقِدُ خِيطًا مِنْ ثَوْبِها في تَجْوِيفِ شَجَراتِ الخَرّوبِ”
وَأَنَّهَا “مَعْجُونَةٌ بِمَاءِ الشَّيَاطِينِ”، لِذَا نَفَرَ مِنْهَا البَعْضُ.
قِيلَ إِنَّهَا تَنَامُ عَلَى الأَرْضِ دُونَ فِرَاشٍ، وَتَتَغَطَّى بِشَعْرِهَا، وَتَقْتَاتُ بِالوُرُودِ وَالأَعْشَابِ البَرِّيَّةِ، وَأَوْرَاقِ الأَشْجَارِ، وَالبُطُومِ، وَالشِّمَّارِيِّ، وَالحَبَقِ، وَالنَّعْنَاعِ، وَالزَّعْتَرِ الجَبَلِيِّ .
تَسْتَحِمُّ بِمَاءِ الزَّهْرِ الَّذِي تُقَطِّرُهُ بِنَفْسِهَا، بَعْدَ أَنْ تَجْمَعَ بَتَلَاتِ اللَّيْمُونِ وَالبُرْتُقَالِ قُبَيْلَ تَنَفُّسِ الصُّبْحِ.
السُّؤالُ الّذي اسْتَوْلَى على الجَمِيعِ” مَنْ سَيَكُونُ فَارِسَ هذِهِ المُهْرَةِ؟”.
تَوافَدَ عَلَيْها الخُطَّابُ مِنْ كُلِّ القُرى المُجاوِرَةِ.
اشْتَرَطَ أَبُوها أَنْ يَكُونَ زَوْجُها مِنْ سُلالَةٍ ذاتِ حَسَبٍ وَنَسَبٍ، وَأَصَرَّتْ أُمُّها أَنْ يَكُونَ مِنْ أَغْنَى الأَغْنِياءِ، أَمَّا مِيرَةُ فَقالَتْ: “سَأَتَزَوَّجُ الأَوْسَمَ.
كَرِهَتْها الأُمَّهاتُ خَوفًا من بَوارِ بَناتِهِنَّ، وغارَتْ منها الفَتياتُ، وطارَ لُبُّ الشَّباب.
احترقتْ قلوبُ رجالٍ عِدَّة، وهناك مَن أمسى هائمًا في الوِدْيانِ يَهذي باسمِها.
تركتُ القَريةَ وعَمِلتُ بالعاصمة، مَرَّتِ السَّنواتُ دون أن تُفارِقَني مِشْيَتُها الغَزَلانيَّةُ ورائحتُها الزَّنبقيَّة، ويَلُمُّ بي طَيفُها في المَنامِ كلَّما اكتمَلَ القمرُ من كلِّ شهر.
نُعِيَ إليَّ وَفاةُ عَمِّي.
في اللَّيلةِ الثَّالثةِ انْفَضَّ المُعزُّونَ، وكان القمرُ بَدْرًا.
اقترح ابنُ عمِّي أن نذهبَ إلى شجراتِ الخَرُّوب.
سألتُه: هل ما زالتِ الطُّقوسُ كما هي؟
حينَ وَصَلْنا كان السُّكونُ يَلفُّ المكانَ، إلَّا مِنْ صَريرِ الجَنادِبِ وحَشراتِ الزِّيزِ في استِعراضٍ موسيقيٍّ للإغراءِ والتزاوُج. أَخَذْنا زاويةً كما كُنَّا نَفعلُ في صِبانا.
قلتُ: لا أحدَ هنا.
قال لي: اصبِرْ.
عَبِقَ المكانُ فجأةً برائحةِ الزَّنبق، غَشِيَني دُوارٌ، وشَعَرتُ كأنَّني خيمةٌ قَوَّضَتْها الرِّيح؛ فقد خَرَجَتْ من تَجْوِيفِ الشَّجَراتِ عَجوزٌ انسَلَّ ثوبُها كلُّهُ أو كاد، تَتَوَكَّأُ عُكَّازًا وتَمْشي في جَلال، شَعرُها يَصلُ إلى كاحليها، أَطْلَقَتْ زَغرودةً واهنةً، لكنْ لا أثَرَ للفَراشات.






