كتاب الرائ

صناعة الصحة وصناعة المرض

د.علي المبروك أبوقرين

في عالم تتقاطع فيه المصالح ، وتتداخل فيه النوايا بين الخير والنفع والربح والهيمنة ، تبرز ثنائية حادة تلامس وجود الإنسان ذاته صناعة الصحة وصناعة المرض ، الأولى تبني الإنسان وتستثمر في وعيه وحياته وقدرته على النمو ، والثانية تستهلكه وتستنزف جسده وروحه وتحوله إلى زبون دائم في أسواق الألم ، صناعة الصحة ليست مجرد طب أو علاج أو دواء ، بل منظومة حضارية تبدأ من الوعي وتنتهي بالنهضة ، هي زراعة في الإنسان قبل أن تكون في الجسد ، تبنيه من الداخل وتُنمي فيه ثقافة الوقاية ، وتُهيئ له بيئة معيشية صحية ، وغذاءً نقيا، ومياهاً آمنة ، وهواءً نظيفاً، ومدناً رحيمة تسير فيها الحياة بانسجام مع الطبيعة والكرامة والعدالة ، صناعة الصحة هي ثمرة التعليم الجيد ، والسياسات العادلة ، والنظم الصحية القوية ، والضمير الجمعي الذي يقدس الإنسان قبل الربح ، والشفاء قبل الفاتورة ، والعافية قبل الاستهلاك ، في صناعة الصحة تتكامل مؤسسات الدولة والمجتمع لتصنع بيئة متوازنة تحمي الإنسان من أسباب المرض ، وتوفر له أسباب الحياة ، التغذية السليمة،  والنشاط البدني والصحة النفسية وبيئة العمل الآمنة ، والسكن الصحي والتعليم الصحي ، والثقافة الوقائية ، والعدالة في الرعاية الصحية ، والمساءلة في القرار الصحي ، إنها صناعة الحياة بكل معانيها ، وفي المقابل هناك منظومة أخرى تتغذّى على الوجع وتزدهر بالألم، تُعرف بصناعة المرض ، منظومة معقدة من المصالح تتشابك فيها الأدوية والمستشفيات الخاصة وشركات التأمين والمستلزمات الطبية والإعلانات الصحية والتعليم الطبي التجاري ، لتكون شبكة اقتصادية ضخمة تُدر أرباحاً طائلة كلما زاد عدد المرضى ، وكلما طال زمن العلاج ، فبدلاً من أن يكون الطب رسالة إنسانية ، تحول في بعض صوره إلى سوق مفتوح للدواء والفحوصات والعمليات والتقنيات ، تغذيه ثقافة الخوف من المرض ، وتُسنده دعايات الوهم واحتكارات الدواء والغش الطبي ، إن صناعة المرض لا تقتصر على الجانب الطبي فحسب ، بل تمتد إلى الاقتصاد الاستهلاكي الذي يروج لما ينهك الجسد والعقل كالأطعمة السريعة ، والمشروبات المحفزة ، والتدخين والتلوث والكسل والسهر ، والإدمان الرقمي ، وضغوط العمل ، والفقر البيئي ، وغياب العدالة الاجتماعية ، كل ذلك يُنتج مرضاً على مستوى الفرد والمجتمع والبيئة ، ثم يُعاد تدويره في سلسلة من الربح والمعاناة ، وبين صناعة الصحة وصناعة المرض ، يقف الضمير الإنساني على المحك ، الأولى تُبنى على الأخلاق ، والثانية تُمول بالأنانية ، وفي الأولى يكون الربح هو تحقيق الصحة والعدالة ، وفي الثانية يكون الربح هو تعميق المرض واستدامته ، الأولى اقتصاد منتج للحياة ، والثانية اقتصاد طفيلي يعيش على الجسد المنهك ، الأولى ترفع من قيمة الإنسان ، والثانية تحوله إلى رقم في فاتورة طويلة الأمد ، صناعة الصحة مسؤولية تشاركية جماعية ، تبدأ من الفرد الذي يدرك معنى العافية ويعيش نمطاً صحياً متوازناً ، وتمر عبر الأسرة التي تزرع القيم الصحية في سلوك أبنائها ، ثم المدرسة التي تُربي العقل على الوعي بالوقاية ، والإعلام الذي ينشر ثقافة المسؤولية ، والدولة التي تضع سياسات عادلة وتنفق على الوقاية قبل العلاج ، إنها مسؤولية أخلاقية وسياسية وإنسانية ، تتطلب رؤية بعيدة المدى لا تقيس النجاح بعدد المستشفيات ، بل بعدد الأصحاء ، وإن التحدي الأكبر أمام الإنسانية اليوم ليس فقط في مكافحة الأمراض ، بل في تحرير الصحة من الأسواق ، وإعادتها إلى معناها الإنساني الأصيل العافية كحق ، والإنسان كغاية ، وحين تتحول الصحة إلى سلعة ، يصبح الجسد ميداناً للمضاربة ، وحين تصبح العافية قضية وعي وضمير ، يعود الإنسان إلى مكانه الطبيعي في مركز الوجود ، وهكذا تتقاطع صناعة الصحة مع قيم النهضة والعدالة ، بينما تظل صناعة المرض إحدى مظاهر الانحدار الأخلاقي والاقتصادي الذي يستهلك الإنسان باسم علاجه ، وما بينهما تُكتب فلسفة الحياة أن نصنع الصحة كي نحيا ، لا أن نصنع المرض كي نربح .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى