التعافي أو استفحال المرض

د.علي المبروك أبوقرين
ما تعيشه ليبيا اليوم لا يمكن قراءته بوصفه تراكم أزمات صحية عابرة ولا بوصفه خلل جزئي في خدمات يمكن إصلاحها بإجراءات محدودة بل هو انهيار مركب طال جوهر النظام الصحي والتعليم الطبي معا وتشابك مع تشوهات الإنفاق وذوبان الحدود بين العام والخاص وتضارب المصالح وغرق الأسواق بالأدوية المغشوشة والمزورة وانهيار منظومات الاعتماد والترخيص حتى تحولت الشهادات الوهمية في الطب والتمريض وبقية المهن الصحية إلى عرض لفوضى عميقة لا إلى استثناء طارئ ، وتراكمت المشاكل الصحية وتكاثرت الأمراض وتبدلت أنماطها واتسعت رقعتها في مجتمع فقد فيه النظام الصحي قدرته على الوقاية والتشخيص والعلاج في آن واحد وغابت الخدمات الصحية الفاعلة عن المنظومة العامة أو تحولت إلى هياكل اسمية بلا قدرة حقيقية على الاستجابة فاضطر المواطن إلى البحث عن العلاج خارج المنظومة ثم خارج الوطن ليصطدم بواقع أشد قسوة لا علاج مجدي في الداخل ولا ضمان حقيقي في الخارج في ظل أسباب باتت معروفة لكنها مؤجلة المعالجة ، وفي هذا الفراغ تمددت الفوضى الصحية وتكاثرت أشكالها وتعقدت يوم بعد يوم وتزايد معها التفتيت والتشظي والانقسام داخل القطاع نفسه بين مؤسسات ضعيفة وأفراد مرهقين وأسواق منفلتة وقرارات مرتجلة فتراجع الأمل وتباعد الإصلاح وتآكلت الثقة في وقت لم يعد فيه العالم ينتظر من يتردد أو يعيد إنتاج أخطائه ، فالعالم دخل بالفعل عهد جديد في الطب والخدمات الصحية يختلف جذريا عما كان عليه بالأمس ليس فقط في التقنيات بل في الفلسفة ذاتها حيث تحولت النظم الصحية إلى منظومات ذكية متكاملة قائمة على الوقاية والبيانات والحوكمة والكفاءة والقيمة ولم تعد المستشفيات مجرد مباني ولا الكوادر مجرد أعداد ولا التعليم الطبي مجرد شهادات بل منظومة معرفة متجددة ومسؤولية أخلاقية ومهنية صارمة ، وهذا التحول العالمي يفرض متطلبات لا يمكن تجاهلها من رؤى جديدة ونظم صحية مغايرة وبنى تحتية مصممة للمستقبل ليست مرقعة من الماضي وقوى عاملة صحية تمتلك كفاءات وقدرات لا تشبه ما هو قائم اليوم في التأهيل أو التدريب أو الثقافة المهنية أو أساليب وطرق الممارسة ، وتزداد المعادلة تعقيد حين يتقاطع هذا الاستحقاق التاريخي مع واقع مثقل بالمشاكل وتراكم الأزمات وتعاظم التهديدات الصحية في زمن لم يعد محايد بل صار عامل ضغط وخطر حيث يتحرك العالم بقفزات متسارعة بينما ما زال الواقع الصحي في ليبيا عالق في دوائر الإنكار والتأجيل وإعادة إنتاج الفشل ، إن هذا المشهد لا يحتمل مزيد من المسكنات ولا يقبل الحلول الترقيعية ولا يستجيب للنماذج المستوردة بلا فهم بل يحتاج إلى بيان وطني صحي يعيد تعريف الصحة بوصفها سيادة ومعرفة وحق عام ومسؤولية دولة لا مجال فيها للهواة ولا مكان فيها لتضارب المصالح ولا شرعية فيها لغير العلم ،
إن لحظة الإصلاح الصحي الحقيقي ليست ترف فكري ولا خيار مؤجل بل ضرورة وجودية تمس بقاء المجتمع وكرامته وأمنه الإنساني وإن الاستمرار في إدارة الصحة بلا علم ولا رؤية ولا محاسبة ليس حياد بل فعل إضرار مقصود وإن السكوت عن هذا المسار ليس صبر بل مشاركة في الجريمة
فإما أن تُستعاد الصحة كقيمة سيادية وكمنظومة معرفة وكبناء مؤسسي عادل ومجاني وعلمي وإما أن يستمر النزيف حتى يفقد الوطن أحد أهم مقومات بقائه ولا يُكتب مستقبل لدولة تهمل صحة شعبها ولا تُصان السيادة حيث يُترك الجسد الجمعي نهبا للفوضى والتجارة والعبث ، والتاريخ لا يرحم من امتلك القدرة على الإصلاح واختار التردد ..



