النظام الصحي بين الطموح والخيبة _ رؤية نقدية

د.علي المبروك أبوقرين
لم يولد النظام الصحي عبثًا ، بل قام على أسسٍ علمية ومعاييرٍ معروفة وهياكل تنظيمية وتشغيلية جُرّبت في دولٍ سبقتنا إلى الإصلاح والعدالة الصحية ، غير أن هذه الأسس لم تترسخ لدينا كما يجب ، إذ ظلّ البناء متذبذبًا بين الطموح والخيبة ، وبين الرؤية والواقع ، والبنية التحتية الصحية التي كانت يومًا مفخرة للمجتمع ، أصبحت اليوم تُقاوم الزمن بما تبقى فيها من أنفاس ، مبانٍ قديمة غير مؤهلة ، وتجهيزات تجاوزها التطور التقني والطبي ، ومرافق لا تواكب التحول العالمي نحو الخدمات الوقائية والتنبؤية والاستباقية والرقمية ، وهذا التراجع لا يعني عجزًا في الموارد ، بل غيابًا في التخطيط ، وتراخيًا في الإرادة التي تصنع الفارق بين المرفق والخدمة ، وبين المؤسسة والمنظومة ، وأما القوى العاملة الصحية فهي عصب النظام الصحي ، لكنها أُنهكت بالتكدس وسوء التوزيع ، وضعف التأهيل ، وغياب المسار المهني الحقيقي ، ولم تعد المشكلة في العدد بل في النوعية ، ولم يعد التعليم الطبي يواكب التحولات الهائلة في العلوم والمناهج ، فاختلّ التوازن بين ما يتعلمه الطالب وما يحتاجه ميدان العمل ، أضف إلى ذلك غياب التدريب السريري المنهجي ، وظهور أجسام تمنح شهادات تخصصية بلا معايير ، فتحوّل العلم إلى سلعة ، والطموح إلى تجارة ، وأدّى ذلك إلى تضخم هياكل النظام الصحي دون أن تزداد كفاءته ، وتكدس الوظائف دون أن تتحسن الخدمة ، ومع غياب الحوكمة والمساءلة والشفافية ، ترسّخت ثقافة التسيّب وضعف الإنتاجية ، فضاعت معايير الجودة وسط ازدواجية المرجعيات وتضارب المصالح ، وجاءت مشكلة التفتيت المؤسسي لتضاعف الخلل ، وانقسم القطاع الصحي إلى أجسامٍ متوازية لا تتبع بعضها ، ولكلٍ منها مرجعيته الخاصة ، وهياكل وقرارات قد تتناقض مع غيرها ، فتحوّل النظام إلى فسيفساء من الإدارات والمصالح المتنازعة ، وفي خضم هذه الفوضى ، تم ترفيع مراكز صغيرة ومستشفيات قروية إلى مستشفيات تعليمية بالمخالفة لكل المعايير ، دون مقومات أو تجهيزات ، فقط بقراراتٍ إدارية شكلية زادت الإنفاق دون أثر. والمفارقة المؤلمة أن التعليم العالي لا يمتلك مستشفى تعليميًا واحدًا بالمواصفات المعترف بها ، ما جعل كليات الطب تعمل في عزلةٍ عن الممارسة الحقيقية ، وفقد الطبيب الشاب بيئته الطبيعية للتعلم والخبرة ، وأما التمويل الصحي فقد تحوّل إلى معضلة مركبة بين إنفاقٍ بلا تخطيط ، وموازناتٍ تُوزع دون دراسة للتكلفة أو المردود ، وتضيع الموارد في مشاريع متكررة لا تُقيم خدمة ولا تُصلح حالًا . وبدلًا من معالجة أصل الخلل ، فُتح باب التأمين الصحي في بيئةٍ غير مهيأة ، فصار غطاءً لتضارب المصالح والفساد المالي ، في دولةٍ ريعية موظّفوها يشكلون أغلب السكان ، وتضخمت الفواتير ، وتلاعب البعض بالنظام ، وتحولت الفكرة من حماية المواطن إلى استنزافه ، ومن ضمان العدالة إلى تكريس التفاوت ، وفوق هذا كله تفاقم تضارب المصالح والجمع بين العمل العام والخاص ، حتى أصبح الكثيرٌ من الكفاءات يمارس نشاطه الخاص أثناء ساعات عمله العام ، في خرقٍ واضح للواجب والقانون ، ومع الوقت أصبحت هذه الممارسات أمرًا واقعًا لا يُستنكر بل يُبرر ، فتراجعت العدالة ، وانهارت الثقة بين المواطن والمرافق الصحية العامة ، وفي ظلّ غياب الرقابة تسللت الأدوية المغشوشة ، والمستلزمات الرديئة ، والتوريدات المشبوهة إلى سوق الدواء والمستشفيات ، لتُعمّق الجرح المفتوح .
ولكن رغم هذا المشهد القاتم ، لا يزال الإصلاح ممكنًا بل ضرورة لا مفر منها ، فالأمم التي نهضت لم تكن أقل معاناة ، لكنها امتلكت الشجاعة لتواجه الحقيقة دون إنكار ، وتُعيد ترتيب أولوياتها على أساس العدالة والمهنية والشفافية ، والإصلاح الصحي لا يبدأ من تغيير الشعارات ، بل من إعادة بناء النظام على أسسٍ علمية موحدة ، وهيكلة مؤسساتية متماسكة ، وإرادة سياسية لا تساوم على صحة الناس . وإصلاح التعليم الطبي ، وضبط التدريب السريري ، وتحديث البنية التحتية ، وتفعيل الحوكمة والمساءلة ، وضمان استقلالية المؤسسات الصحية عن المصالح الخاصة ، وهذه ليست شعارات ، بل أدوات خلاص ، ولن ينهض النظام الصحي ما لم يُستأصل تضارب المصالح ، وتُغلق الأبواب الخلفية التي يتسلل منها الفساد والازدواجية ، ويُعاد الاعتبار للمستشفى العام كركيزة للعدالة ، وللكوادر الوطنية كعمودٍ للنظام ، وللمريض كمركزٍ للسياسة الصحية كلها ، وليس الإصلاح أن نُعيد طلاء الجدران المتشققة ، بل أن نُعيد بناء الأساس ، فحين يُدار النظام الصحي بعقل الدولة لا بهوى الأشخاص ، تتحول الخيبة إلى طموح ، والطموح إلى واقعٍ يليق بالإنسان والوطن .






