في عالم تتقاطع فيه المصالح ، وتتداخل فيه النوايا بين الخير والنفع والربح والهيمنة ، تبرز ثنائية حادة تلامس وجود الإنسان ذاته صناعة الصحة وصناعة المرض ، الأولى تبني الإنسان وتستثمر في وعيه وحياته وقدرته على النمو ، والثانية تستهلكه وتستنزف جسده وروحه وتحوله إلى زبون دائم في أسواق الألم ، صناعة الصحة ليست مجرد طب أو علاج أو دواء ، بل منظومة حضارية تبدأ من الوعي وتنتهي بالنهضة ، هي زراعة في الإنسان قبل أن تكون في الجسد ، تبنيه من الداخل وتُنمي فيه ثقافة الوقاية ، وتُهيئ له بيئة معيشية صحية ، وغذاءً نقيا، ومياهاً آمنة ، وهواءً نظيفاً، ومدناً رحيمة تسير فيها الحياة بانسجام مع الطبيعة والكرامة والعدالة ، صناعة الصحة هي ثمرة التعليم الجيد ، والسياسات العادلة ، والنظم الصحية القوية ، والضمير الجمعي الذي يقدس الإنسان قبل الربح ، والشفاء قبل الفاتورة ، والعافية قبل الاستهلاك ، في صناعة الصحة تتكامل مؤسسات الدولة والمجتمع لتصنع بيئة متوازنة تحمي الإنسان من أسباب المرض ، وتوفر له أسباب الحياة ، التغذية السليمة، والنشاط البدني والصحة النفسية وبيئة العمل الآمنة ، والسكن الصحي والتعليم الصحي ، والثقافة الوقائية ، والعدالة في الرعاية الصحية ، والمساءلة في القرار الصحي ، إنها صناعة الحياة بكل معانيها ، وفي المقابل هناك منظومة أخرى تتغذّى على الوجع وتزدهر بالألم، تُعرف بصناعة المرض ، منظومة معقدة من المصالح تتشابك فيها الأدوية والمستشفيات الخاصة وشركات التأمين والمستلزمات الطبية والإعلانات الصحية والتعليم الطبي التجاري ، لتكون شبكة اقتصادية ضخمة تُدر أرباحاً طائلة كلما زاد عدد المرضى ، وكلما طال زمن العلاج ، فبدلاً من أن يكون الطب رسالة إنسانية ، تحول في بعض صوره إلى سوق مفتوح للدواء والفحوصات والعمليات والتقنيات ، تغذيه ثقافة الخوف من المرض ، وتُسنده دعايات الوهم واحتكارات الدواء والغش الطبي ، إن صناعة المرض لا تقتصر على الجانب الطبي فحسب ، بل تمتد إلى الاقتصاد الاستهلاكي الذي يروج لما ينهك الجسد والعقل كالأطعمة السريعة ، والمشروبات المحفزة ، والتدخين والتلوث والكسل والسهر ، والإدمان الرقمي ، وضغوط العمل ، والفقر البيئي ، وغياب العدالة الاجتماعية ، كل ذلك يُنتج مرضاً على مستوى الفرد والمجتمع والبيئة ، ثم يُعاد تدويره في سلسلة من الربح والمعاناة ، وبين صناعة الصحة وصناعة المرض ، يقف الضمير الإنساني على المحك ، الأولى تُبنى على الأخلاق ، والثانية تُمول بالأنانية ، وفي الأولى يكون الربح هو تحقيق الصحة والعدالة ، وفي الثانية يكون الربح هو تعميق المرض واستدامته ، الأولى اقتصاد منتج للحياة ، والثانية اقتصاد طفيلي يعيش على الجسد المنهك ، الأولى ترفع من قيمة الإنسان ، والثانية تحوله إلى رقم في فاتورة طويلة الأمد ، صناعة الصحة مسؤولية تشاركية جماعية ، تبدأ من الفرد الذي يدرك معنى العافية ويعيش نمطاً صحياً متوازناً ، وتمر عبر الأسرة التي تزرع القيم الصحية في سلوك أبنائها ، ثم المدرسة التي تُربي العقل على الوعي بالوقاية ، والإعلام الذي ينشر ثقافة المسؤولية ، والدولة التي تضع سياسات عادلة وتنفق على الوقاية قبل العلاج ، إنها مسؤولية أخلاقية وسياسية وإنسانية ، تتطلب رؤية بعيدة المدى لا تقيس النجاح بعدد المستشفيات ، بل بعدد الأصحاء ، وإن التحدي الأكبر أمام الإنسانية اليوم ليس فقط في مكافحة الأمراض ، بل في تحرير الصحة من الأسواق ، وإعادتها إلى معناها الإنساني الأصيل العافية كحق ، والإنسان كغاية ، وحين تتحول الصحة إلى سلعة ، يصبح الجسد ميداناً للمضاربة ، وحين تصبح العافية قضية وعي وضمير ، يعود الإنسان إلى مكانه الطبيعي في مركز الوجود ، وهكذا تتقاطع صناعة الصحة مع قيم النهضة والعدالة ، بينما تظل صناعة المرض إحدى مظاهر الانحدار الأخلاقي والاقتصادي الذي يستهلك الإنسان باسم علاجه ، وما بينهما تُكتب فلسفة الحياة أن نصنع الصحة كي نحيا ، لا أن نصنع المرض كي نربح .
شهدت العاصمة الكينية نيروبي، خلال الفترة من 17 إلى 22 نوفمبر 2025، انعقاد المؤتمر العالمي…
د.علي المبروك أبوقرين هناك لحظة حرجة في تاريخ الأمم تتوقف فيها عقارب الساعة على سؤال…
إن القطاع الصحي العام ليس مجرد مؤسسات تقدم العلاج أو تُدار بالموازنات السنوية ، بل…
د.علي المبروك أبوقرينإن الأوطان لا تقاس بارتفاع مبانيها ولا بحجم موازناتها ولا بعدد قراراتها ،…
جلال عثمان قد يتساءل البعض عن سبب اختيار مكان خارج ليبيا لانعقاد هذا الاجتماع التأسيسي…