كتاب الرائ

من رحم التحديات الصحية تولد الانتصارات .

د.علي المبروك أبوقرين

إذا نظرنا إلى الوراء عبر صفحات التاريخ البشري ، نرى مسيرة الإنسانية المتعرجة التي تشبه نهراً يجري بين منعطفات التحديات والانتصارات ، لقد واجه أجدادنا الطاعون الأسود ، والجدري ، والإنفلونزا الإسبانية ، وتحديات صحية مرعبة ، لكن في كل مرة كانت الإرادة الإنسانية تنتصر ، لترتفع البشرية من تحت الأنقاض أقوى مما كانت ، وها نحن اليوم بعد أن اجتزنا محطة جائحة كوفيد-19 مع استمرار توابعها ، نقف على أعتاب فصل جديد من فصول الحضارة الإنسانية ، لقد تركت فينا الجائحة ندوباً عميقة ، لكنها أيضاً منحتنا دروساً ثمينة ، علمتنا هشاشة الحياة فجعلتنا نقدس كل لحظة ، وبينت لنا قوة التعاون والتعاضد الإنساني ، وأكدت أن الخوف مرحلة عابرة ، والأمل اختيار دائم ، والاندفاع نحو الحياة قرار لا تفاوض عليه ، وإن اللحظة التاريخية التي نعيشها اليوم تنادينا بأصوات متعددة ، فالجد الذي عاصر الأوبئة يهمس لقد مررنا بأصعب من هذا وانتصرنا ، والطبيب الذي قاد معركة المواجهة يؤكد أن العلم الإنساني يتقدم ولا يتراجع ، والشاب الحالم يصرخ المستقبل ملك لمن يجرؤ على صنعه ، وإن البيانات والإحصائيات تخبرنا قصص مذهلة ، فبعد كل أزمة صحية كبرى في التاريخ ، تشهد البشرية قفزات نوعية في الابتكار والإبداع ، واليوم نحن على أعتاب ثورة طبية وعلمية وإنسانية ستغير وجه العالم ، وصناعة الأمل مهمة الأجيال وحان الوقت لندفع بأقصى قوة نحو شغف جديد يتحول من البقاء إلى البناء ، وإبداع مختلف يجعل من التحديات منصات انطلاق ، وثقة متجددة بقدرة الإنسان على الصمود والنهوض ، والعلماء منكبون يطورون اللقاحات والأدوية خلال أشهر بدلاً من سنوات ، والمبدعون يبتكرون حلولاً رقمية تعيد التواصل الإنساني ، والمجتمعات تنسج شبكات دعم غير مسبوقة ، لا ندعوا لنسيان الماضي ، بل ندعوا لنجعل من ذاكرة التحدي وقوداً للإنجاز ، والأدلة التاريخية والعلمية تؤكد أن  الحضارات العظيمة لم تبنَ في أوقات الرخاء ، بل تشكلت في أتون التحديات ، والمستقبل ينتظر بأذرع مفتوحة ، يحمل في جعبته اكتشافات طبية ستغير مفهوم الحياة ، وتقنيات ستجعل المستحيل ممكناً ، وفرصاً لتحقيق أحلام كانت تبدو خيالية ، إن البشرية التي استطاعت أن تهبط على القمر ، وتشق المحيطات ، وتكشف أسرار الذرة ، قادرة دون شك على كتابة فصل جديد مشرق في تاريخها ، وبالتأكيد الآن الكثير منا  يقول للتاريخ: كنا هنا ، وواجهنا التحدي وانتصرنا ، ونقول للجميع لننطلق معاً نحو الحياة بكل قوانا ، لنملأ العالم شغفاً وإبداعاً وثقة ، لأننا ورثة حضارة بنتها انتصارات الأجداد ، وسنكون نحن الأساس الذي تبنى عليه انتصارات الأحفاد ، وها نحن نقف على عتبة عصر جديد ، حيث تتحول النظم الصحية من مجرد استجابة للأمراض إلى بناء مجتمعات مزدهرة ، ومدن صديقة للصحة النفسية ، تدمج المساحات الخضراء مع مراكز الابتكار ، ومجتمعات محلية تدعم بعضها ، ونظم رعاية متكاملة تنتقل بالفرد بسلاسة من العناية المنزلية إلى المستشفى الذكي ، وعلم يتنبأ بالمرض قبل وقوعه ، وتقنيات الذكاء الاصطناعي تقرأ إشارات الجسد قبل أن تتحول إلى أمراض ، وبطاقات صحية شخصية تحمل الشفرات الجينية توجه نحو أنماط حياتية تحمي من الأمراض ، وتطبيقات ذكية تربط بين نمط النوم والغذاء والتوتر وتقدم النصائح ، والطب الشمولي الي  يعالج الإنسان لا المرض ، وعيادات تضم أطباء الجسد وأطباء النفس وأخصائيي التغذية معاً ، وبرامج إعادة تأهيل تركز على إعادة الانغماس في الحياة لا مجرد علاج الأعراض ، وشراكات بين القطاع الصحي والثقافي والفني لخلق مسارات شفاء متكاملة ، وروبوتات تقدّم الدعم العاطفي بجانب الرعاية الطبية ، وواقع افتراضي يساعد المرضى على تجاوز الرهاب والألم ، ومنصات رقمية تربط المرضى بمجتمعات داعمة تخفف الوحدة ، ومتطوعون مدربون على الاستجابة السريعة يشكلون خط الدفاع الأول ، وبرامج توعية تُدمج في مناهج التعليم منذ الطفولة ، وشهادات صحية مجتمعية كمتطلب للتخرج والوظائف ، والعالم بصدد تطوراًت طبية ونهضة إنسانية شاملة ، والعلماء الذين يحصدون جوائز نوبل اليوم لا يكتفون باكتشاف الحقائق ، بل يصممون حلولاً تلامس حياة الناس ، وها هو العالم الذي طور تقنية كريسبر للتحرير الجيني يمسك بيد الطفل الذي سينقذه من مرض وراثي قاتل ، وها هي الباحثة التي اكتشفت آلية جديدة للخلايا تفتح الأبواب لعلاجات كانت مستحيلة ، وإن هذه الثورة ليست حكراً على المختبرات ، بل هي ملك لكل إنسان يختار أن يكون جزءاً من الحل . من الطبيب في القرية النائية إلى الأم التي تختار طعاماً صحياً لعائلتها ، ومن المعلم الذي يزرع حب المعرفة إلى المهندس الذي يصمم مباني أكثر صحية ، الانسان لا يواجه المستقبل بل يصنعه ، بالتحول من ردود الأفعال إلى المبادرات الاستباقية ، ومن ثقافة الخوف إلى ثقافة الثقة ، وهذه ليست نهاية التحديات ، بل بداية عصر جديد تُكتب فصوله بقلوب عامرة بالإيمان بقدرة الإنسان ، وعقول متسلحة بأدوات العلم ، وأرواح متشبعة بقيم التعاطف والتضامن والتكافل والتعاضد ، ولنجعل الوقاية فلسفة حياة ، والصحة اختيار نمارسه كل يوم ، والقيم والمبادئ والاخلاق لغتنا المشتركة .

منشور له صلة

مشاركة ليبية بالمؤتمر العالمي الرابع عشر للرابطة الدولية لقضاة اللاجئين والهجرة في نيروبي

شهدت العاصمة الكينية نيروبي، خلال الفترة من 17 إلى 22 نوفمبر 2025، انعقاد المؤتمر العالمي…

4 أسابيع منذ

الرؤية الصحية الطويلة الأمد

د.علي المبروك أبوقرين هناك لحظة حرجة في تاريخ الأمم تتوقف فيها عقارب الساعة على سؤال…

شهر واحد منذ

الصحة التعليمية

هناك لحظة خفية تبدأ فيها الحكاية ، لحظة لا يسمعها أحد ، حين تنبض خلية…

شهر واحد منذ

الدور السيادي والنهضوي للقطاع الصحي

إن القطاع الصحي العام ليس مجرد مؤسسات تقدم العلاج أو تُدار بالموازنات السنوية ، بل…

شهر واحد منذ

المؤشرات الصحية

د.علي المبروك أبوقرينإن الأوطان لا تقاس بارتفاع مبانيها ولا بحجم موازناتها ولا بعدد قراراتها ،…

شهر واحد منذ

لماذا إسطنبول؟

جلال عثمان قد يتساءل البعض عن سبب اختيار مكان خارج ليبيا لانعقاد هذا الاجتماع التأسيسي…

شهر واحد منذ