في البدايات كان الطب رسالة إنسانية خالصة ، تمارَس بروح الرحمة والمعرفة ، وترتبط بالواجب الأخلاقي أكثر من ارتباطها بالمكاسب المادية ، وكان الطبيب يلقب بالحكيم ، لأن علمه لم يكن محصورًا في الجسد ، بل ممتدًا إلى الروح والعقل ، ولأن المريض كان يعامل كإنسان كامل ، لا كحالةٍ أو رقم في سجل ، ولكن مع التحولات الصناعية الكبرى في القرن التاسع عشر ، بدأت البذور الأولى لتحول الطب من رسالة إلى مهنة تُدار بمنطق السوق ، ونشأت المستشفيات الخاصة لخدمة الطبقة العاملة في إنجلترا وأمريكا ، ثم ظهرت أنظمة التأمين الجماعي بين العمال وأصحاب العمل والأطباء ، واتسعت لاحقًا لتصبح شركاتٍ تجارية ضخمة تقدم خدمات طبية بمقابل مالي ،
وكان ذلك التحول بداية خصخصة الطب وانفصاله التدريجي عن مفهوم الخدمة العامة ، وبعد الحرب العالمية الثانية ، ومع نشوء أنظمة الرفاه في أوروبا ، ظهرت محاولة للموازنة بين الحق في الصحة وحرية السوق ، لكن مع صعود الليبرالية الاقتصادية الجديدة في الثمانينيات ، تغير المشهد جذريًا وصار يُنظر إلى الصحة باعتبارها قطاعًا اقتصاديًا ، وإلى المريض كمستهلك ، وإلى الخدمة الصحية كسلعة قابلة للتسعير والتنافس والتداول تحت شعار الكفاءة والإنتاجية ، وتسللت مفاهيم الربح والعائد والعرض والطلب إلى قلب المؤسسة الصحية ، فأصبح التمويل هو الموجّه ، وليس الحاجة الإنسانية ، وأصبح نجاح المستشفى يُقاس بالميزانية لا بعدد الأرواح التي أنقذها ، وفي ظل ما سُمي بالعولمة الصحية تعمقت هذه المفارقة أكثر وفي الوقت الذي أُتيح للعلم والمعرفة أن ينتقلا بلا حدود ،
أُغلقت الحدود أمام المريض الفقير ،
وتحولت الكفاءات الطبية إلى سلعة بشرية تُستقطب من الجنوب إلى الشمال ، ومن الدول الفقيرة والمتوسطة الدخل إلى الدول الغنية والمراكز الكبرى ، وزادت الفجوة الصحية العالمية ، وأصبحت العدالة في العلاج حلما يتراجع أمام منطق السوق والربح ، ورغم التوسع الهائل في الاستثمارات الصحية والمشاريع الخاصة ، لم تحقق هذه التوجهات التغطية الصحية الشاملة ، ولم تُظهر فاعلية تُذكر أمام الجوائح والكوارث الصحية والطبيعية ، وفي كل أزمةٍ كبرى من الجوائح إلى الحروب ،
تكشّف هشاشـة الأنظمة التجارية وغياب البنية الإنسانية والتضامنية ،
وتبيّن أن من يملك المال ينجو ، ومن لا يملكه يُنسى ويضيع ، أما الاستثمارات الصحية الضخمة التي رفعت شعارات الحداثة والتقنية ،
فلم تنجح في بناء أمن صحي حقيقي ، بل زادت من استقطاب الكفاءات من الدول الضعيفة ، وساهمت في إفراغها من أطبائها وممرضيها وعقولها العلمية ، ليُعاد تصدير خدماتها وأدويتها إليها بأسعارٍ مضاعفة ، في دورة من الاستغلال الصحي المقنّع ، والمفارقة الكبرى أن التطورات العلمية والطبية والصحية الحقيقية ، ما تزال تُصنع في المستشفيات الجامعية والمراكز البحثية العامة ، حيث يجتمع العلم والضمير ، والفكر والإنسان ، بعيدًا عن منطق السوق ، وقريبًا من رسالة الطب الأولى ، إن ما شهدناه خلال العقود الأخيرة ليس تطورًا في الطب ، بل تحولًا في فلسفة الطب ، من فلسفة تقوم على الإنسان ، إلى فلسفة تُقدّس السوق وتُخضع الإنسان لمنطقه ، لكنّ الطب حين يُفرّغ من إنسانيته يفقد جوهره ، وحين تُسعّر الصحة تُفقد الكرامة ، وحين تُقاس حياة البشر بالأرباح تضيع العدالة ، ومن هنا فإن العالم مدعو اليوم إلى إعادة اكتشاف الطب كقيمة إنسانية ، وإلى ترميم الفلسفة الأخلاقية التي انبثق منها ، وتذكر أن المستشفى ليس شركة ، بل بيت حياة ، وأن الطبيب ليس بائع دواء ، بل حارس معنى ، وإن الطب الذي يفقد ضميره يفقد علمه ، والإنسان الذي يبيع صحته يبيع إنسانيته ، وإن العودة إلى روح الطب الإنساني لا تعني رفض التطور أو التقنية ، بل تعني أن يكون الإنسان هو الغاية وليس الوسيلة ، والعدالة هي المعيار وليس الربح ، والضمير هو الحاكم وليس السوق .
د.علي المبروك أبوقرين
شهدت العاصمة الكينية نيروبي، خلال الفترة من 17 إلى 22 نوفمبر 2025، انعقاد المؤتمر العالمي…
د.علي المبروك أبوقرين هناك لحظة حرجة في تاريخ الأمم تتوقف فيها عقارب الساعة على سؤال…
إن القطاع الصحي العام ليس مجرد مؤسسات تقدم العلاج أو تُدار بالموازنات السنوية ، بل…
د.علي المبروك أبوقرينإن الأوطان لا تقاس بارتفاع مبانيها ولا بحجم موازناتها ولا بعدد قراراتها ،…
جلال عثمان قد يتساءل البعض عن سبب اختيار مكان خارج ليبيا لانعقاد هذا الاجتماع التأسيسي…