كتاب الرائ

رؤية للمستقبل الصحي العربي


تتقاسم الدول العربية جغرافية واسعة متصلة في قلب العالم تربط القارات وتجاور الحضارات ، وتتقاسم مع المتوسط وأوروبا أنماط حياة وتاريخ وتفاعل واستثمار واقتصاد لكنها تتقاسم فيما بينها قبل ذلك موروث ثقافي وإنساني عميق وعادات وتقاليد وهوية مشتركة وتجارب متقاربة في الصحة والمرض وأنماط العيش وأسباب العلل وإن اختلفت اليوم في قدراتها ونظمها الصحية بتفاوت الموارد والاقتصاد ، غير أن هذا التفاوت لا يلغي حقيقة أكبر وهي أن العالم العربي يمتلك فرصة تاريخية نادرة لبناء منظومة صحية قوية وفعالة ومنصفة تتجاوز الحدود القطرية دون أن تلغي الخصوصيات ، منظومة تتوحد فيها التشريعات الصحية الكبرى وتتقارب السياسات والاستراتيجيات وتتكامل البرامج ، وتتحول الصحة من شأن محلي مجزأ إلى مشروع عربي إنساني مشترك ، إن توحيد الرؤية الصحية العربية يفتح الباب أمام بناء منظومة واسعة للتوعية المجتمعية الصحية ، وقاعدة عربية موحدة للمعلومات الصحية والبيانات الوبائية ، ومعايير مشتركة لجودة الخدمات الصحية وسلامة المرضى ومكافحة العدوى ، وأنظمة إنذار مبكر وترصد وتقصي عابر للحدود ، وسجلات طبية للأمراض المعدية والمستعصية ، وتعاون علمي في بروتوكولات الوقاية والتشخيص والعلاج والتأهيل والخدمات الصحية الاستباقية والتنبؤية ، وفي قلب هذا المستقبل تقف التنمية البشرية الصحية بوصفها حجر الأساس حيث تتوحد الجهود لبناء قوى عاملة صحية عربية متكاملة عالية التأهيل متعددة التخصصات مدعومة بتعليم طبي رفيع الجودة وتدريب سريري صارم وبحث علمي متقدم يسبق ولا يكتفي باللحاق ، وتأسيس جامعات وكليات ومعاهد عربية رائدة في الطب والتمريض والفنيين والصيدلة وعلوم الأدوية والصحة العامة والإدارة الصحية والاقتصاد الصحي والمعرفة والفلسفة الصحية ، ويكتمل المشهد حين تتوحد الإرادة العربية لإنشاء هيئات عربية مشتركة للبحوث الطبية والصحية ، وجودة الخدمات الصحية والاعتماد ، وهيئة عربية للغذاء والدواء ، وهيئات للطوارئ والإنقاذ والإخلاء الطبي ، وتُبنى قاعدة صناعية عربية متكاملة للأدوية والمستلزمات الطبية واللقاحات ، مدعومة بالرقمنة والذكاء الاصطناعي والتطبيب عن بعد والخدمات الصحية الإلكترونية والروبوتية لتحقيق التغطية الصحية الشاملة بعدالة وكفاءة وكفاية ، وهذه الرؤية ليست حالمة بمعنى الهروب من الواقع بل حالمة بمعنى الإيمان بإمكانية تغييره حين تتراكم الإرادة السياسية مع العلم والمعرفة والاستثمار الرشيد وحين تتحول النجاحات القطرية إلى نجاحات عربية وتصبح الدول العربية دولاً مبادرة وصانعة في العلوم الطبية والصحية لا مستهلكة فقط ، وحين يتحقق ذلك يصبح بالإمكان أن يكون العالم العربي نموذج عالمي في العدالة الصحية وجودة التعليم الطبي والتدريب السريري والبحث العلمي والخدمات الصحية ويحقق أعلى المؤشرات العالمية في الصحة والعافية والرفاه ، وينخفض العبء المرضي وترتفع الإنتاجية ويطول العمر الصحي للإنسان العربي ليس بعدد السنوات بل بجودة الحياة ، وذلك هو مستقبل صحي عربي ممكن ، إذا ما آمنا أن الصحة ليست قطاع بل رسالة حضارية وأن الإنسان العربي يستحق أن يعيش عمره صحيحاً معافى كريماً حتى آخر لحظة .
د.علي المبروك أبوقرين
عضو المجلس التنفيذي لاتحاد المستشفيات العربية
عضو المجلس الاستشاري العربي الافريقي للتوعية

منشور له صلة

التعافي أو استفحال المرض

د.علي المبروك أبوقرين ما تعيشه ليبيا اليوم لا يمكن قراءته بوصفه تراكم أزمات صحية عابرة…

يومين منذ

الاستقلال بين الأمس واليوم

د.علي المبروك أبوقرين في الرابع والعشرين من ديسمبر عام ألف وتسعمائة وواحد وخمسين خرجت ليبيا…

يومين منذ

أكاديميون وباحثون يناقشون دور الأمم المتحدة في إدارة الحوار السياسي الليبي خلال ورشة علمية متخصصة

التاريخ: 22 ديسمبر 2025/ الأكاديمية الليبية – جنزور للدراسات العليا نظمت الأكاديمية الليبية – جنزور…

3 أيام منذ

مشاركة ليبية بالمؤتمر العالمي الرابع عشر للرابطة الدولية لقضاة اللاجئين والهجرة في نيروبي

شهدت العاصمة الكينية نيروبي، خلال الفترة من 17 إلى 22 نوفمبر 2025، انعقاد المؤتمر العالمي…

شهر واحد منذ

الرؤية الصحية الطويلة الأمد

د.علي المبروك أبوقرين هناك لحظة حرجة في تاريخ الأمم تتوقف فيها عقارب الساعة على سؤال…

شهر واحد منذ

الصحة التعليمية

هناك لحظة خفية تبدأ فيها الحكاية ، لحظة لا يسمعها أحد ، حين تنبض خلية…

شهر واحد منذ