لم يولد النظام الصحي عبثًا ، بل قام على أسسٍ علمية ومعاييرٍ معروفة وهياكل تنظيمية وتشغيلية جُرّبت في دولٍ سبقتنا إلى الإصلاح والعدالة الصحية ، غير أن هذه الأسس لم تترسخ لدينا كما يجب ، إذ ظلّ البناء متذبذبًا بين الطموح والخيبة ، وبين الرؤية والواقع ، والبنية التحتية الصحية التي كانت يومًا مفخرة للمجتمع ، أصبحت اليوم تُقاوم الزمن بما تبقى فيها من أنفاس ، مبانٍ قديمة غير مؤهلة ، وتجهيزات تجاوزها التطور التقني والطبي ، ومرافق لا تواكب التحول العالمي نحو الخدمات الوقائية والتنبؤية والاستباقية والرقمية ، وهذا التراجع لا يعني عجزًا في الموارد ، بل غيابًا في التخطيط ، وتراخيًا في الإرادة التي تصنع الفارق بين المرفق والخدمة ، وبين المؤسسة والمنظومة ، وأما القوى العاملة الصحية فهي عصب النظام الصحي ، لكنها أُنهكت بالتكدس وسوء التوزيع ، وضعف التأهيل ، وغياب المسار المهني الحقيقي ، ولم تعد المشكلة في العدد بل في النوعية ، ولم يعد التعليم الطبي يواكب التحولات الهائلة في العلوم والمناهج ، فاختلّ التوازن بين ما يتعلمه الطالب وما يحتاجه ميدان العمل ، أضف إلى ذلك غياب التدريب السريري المنهجي ، وظهور أجسام تمنح شهادات تخصصية بلا معايير ، فتحوّل العلم إلى سلعة ، والطموح إلى تجارة ، وأدّى ذلك إلى تضخم هياكل النظام الصحي دون أن تزداد كفاءته ، وتكدس الوظائف دون أن تتحسن الخدمة ، ومع غياب الحوكمة والمساءلة والشفافية ، ترسّخت ثقافة التسيّب وضعف الإنتاجية ، فضاعت معايير الجودة وسط ازدواجية المرجعيات وتضارب المصالح ، وجاءت مشكلة التفتيت المؤسسي لتضاعف الخلل ، وانقسم القطاع الصحي إلى أجسامٍ متوازية لا تتبع بعضها ، ولكلٍ منها مرجعيته الخاصة ، وهياكل وقرارات قد تتناقض مع غيرها ، فتحوّل النظام إلى فسيفساء من الإدارات والمصالح المتنازعة ، وفي خضم هذه الفوضى ، تم ترفيع مراكز صغيرة ومستشفيات قروية إلى مستشفيات تعليمية بالمخالفة لكل المعايير ، دون مقومات أو تجهيزات ، فقط بقراراتٍ إدارية شكلية زادت الإنفاق دون أثر. والمفارقة المؤلمة أن التعليم العالي لا يمتلك مستشفى تعليميًا واحدًا بالمواصفات المعترف بها ، ما جعل كليات الطب تعمل في عزلةٍ عن الممارسة الحقيقية ، وفقد الطبيب الشاب بيئته الطبيعية للتعلم والخبرة ، وأما التمويل الصحي فقد تحوّل إلى معضلة مركبة بين إنفاقٍ بلا تخطيط ، وموازناتٍ تُوزع دون دراسة للتكلفة أو المردود ، وتضيع الموارد في مشاريع متكررة لا تُقيم خدمة ولا تُصلح حالًا . وبدلًا من معالجة أصل الخلل ، فُتح باب التأمين الصحي في بيئةٍ غير مهيأة ، فصار غطاءً لتضارب المصالح والفساد المالي ، في دولةٍ ريعية موظّفوها يشكلون أغلب السكان ، وتضخمت الفواتير ، وتلاعب البعض بالنظام ، وتحولت الفكرة من حماية المواطن إلى استنزافه ، ومن ضمان العدالة إلى تكريس التفاوت ، وفوق هذا كله تفاقم تضارب المصالح والجمع بين العمل العام والخاص ، حتى أصبح الكثيرٌ من الكفاءات يمارس نشاطه الخاص أثناء ساعات عمله العام ، في خرقٍ واضح للواجب والقانون ، ومع الوقت أصبحت هذه الممارسات أمرًا واقعًا لا يُستنكر بل يُبرر ، فتراجعت العدالة ، وانهارت الثقة بين المواطن والمرافق الصحية العامة ، وفي ظلّ غياب الرقابة تسللت الأدوية المغشوشة ، والمستلزمات الرديئة ، والتوريدات المشبوهة إلى سوق الدواء والمستشفيات ، لتُعمّق الجرح المفتوح .
ولكن رغم هذا المشهد القاتم ، لا يزال الإصلاح ممكنًا بل ضرورة لا مفر منها ، فالأمم التي نهضت لم تكن أقل معاناة ، لكنها امتلكت الشجاعة لتواجه الحقيقة دون إنكار ، وتُعيد ترتيب أولوياتها على أساس العدالة والمهنية والشفافية ، والإصلاح الصحي لا يبدأ من تغيير الشعارات ، بل من إعادة بناء النظام على أسسٍ علمية موحدة ، وهيكلة مؤسساتية متماسكة ، وإرادة سياسية لا تساوم على صحة الناس . وإصلاح التعليم الطبي ، وضبط التدريب السريري ، وتحديث البنية التحتية ، وتفعيل الحوكمة والمساءلة ، وضمان استقلالية المؤسسات الصحية عن المصالح الخاصة ، وهذه ليست شعارات ، بل أدوات خلاص ، ولن ينهض النظام الصحي ما لم يُستأصل تضارب المصالح ، وتُغلق الأبواب الخلفية التي يتسلل منها الفساد والازدواجية ، ويُعاد الاعتبار للمستشفى العام كركيزة للعدالة ، وللكوادر الوطنية كعمودٍ للنظام ، وللمريض كمركزٍ للسياسة الصحية كلها ، وليس الإصلاح أن نُعيد طلاء الجدران المتشققة ، بل أن نُعيد بناء الأساس ، فحين يُدار النظام الصحي بعقل الدولة لا بهوى الأشخاص ، تتحول الخيبة إلى طموح ، والطموح إلى واقعٍ يليق بالإنسان والوطن .
شهدت العاصمة الكينية نيروبي، خلال الفترة من 17 إلى 22 نوفمبر 2025، انعقاد المؤتمر العالمي…
د.علي المبروك أبوقرين هناك لحظة حرجة في تاريخ الأمم تتوقف فيها عقارب الساعة على سؤال…
إن القطاع الصحي العام ليس مجرد مؤسسات تقدم العلاج أو تُدار بالموازنات السنوية ، بل…
د.علي المبروك أبوقرينإن الأوطان لا تقاس بارتفاع مبانيها ولا بحجم موازناتها ولا بعدد قراراتها ،…
جلال عثمان قد يتساءل البعض عن سبب اختيار مكان خارج ليبيا لانعقاد هذا الاجتماع التأسيسي…