المستشفيات في ليبيا لم تكن يومًا طارئة على الجغرافيا أو التاريخ ، فقد بُنيت بمعايير عالمية ، ووزعت بتوازن مدروس في حينها ، وعملت لفترة بكفاءة عالية وكانت سباقة في التجهيزات الحديثة المتطورة قبل غيرها في المنطقة مما جعلت منها رمزًا للاطمئنان ، ومفخرة للإنجاز الوطني ، ولكن الزمن وتقلباته !!! ، ومع غياب الاستدامة في الرؤية والإدارة ، جعلا من تلك الكفاءة ظلًا باهتًا لما كانت عليه ، واليوم وما تمر به المستشفيات من تدنى في مستويات الأداء لأسباب الكل يعلمها ، يصبح من الضرورة القصوى أن يعاد للمستشفيات روحها ورونقها ودورها الحيوي وعطائها الإنساني ورسالتها الأصيلة ، وأن تكون كما يجب بيوت الأمان والكرامة ، ومنارة الصحة والعافية وصون الحياة ، إن الصحة ليست مجرد دواء يتناوله المريض ، ولا سريرًا يمدد عليه جسده المنهك ، بل هي حق أصيل يولد مع الإنسان وقبل ذلك ، وركيزة في بناء الكرامة ، ومرآة لعدالة المجتمع ورصانته ، والمستشفيات ليست جدرانًا تعلو ولا آلات تدور ، بل هي بيوت الأمان الذي تلجأ إليها النفوس في لحظة ضعفها ، وفضاء للاستقرار حين يضطرب كل شيء من حولها ، وفي ليبيا حيث التاريخ يفيض بالحكمة ، وحيث الإنسان يظل الثروة الكبرى ، تتجدد الرغبة في إيجاد مستشفيات مختلفة ، مستشفيات ليست مجرد مؤسسات علاجية ، بل حاضنة للحياة ، ومنارة للثقة ، وميدان تُصان فيه القيم الإنسانية ، وهنا يصبح الاستثمار في الإنسان قبل الحجر ، فالقادة الذين يخططون ويديرون ، والإداريون الذين ينسقون وينظمون ، والممارسون الذين يلمسون وجع المريض ويحولونه إلى أمل ، هم الركيزة التي تنهض عليها كل مسارات التطوير ، من خلال تعليمهم وتدريبهم وتأهيلهم وتكوينهم المستمر الذي هو الأساس والقاعدة ولا يمكن أن يكون رفاهًا ، بل هو صمام الأمان ، وجسر العبور نحو المستقبل ، وعلى هذا الأساس تتشكل المسارات الكبرى ، منها ما يجعل المستشفيات مرنة وقادرة على مواجهة الأزمات ، كحصن صامد أمام الحروب والكوارث والأوبئة ، ومنها ما يحول المستشفيات إلى عقول رقمية نابضة بالبيانات والذكاء الاصطناعي ، حيث الدقة والسرعة والأمان المعلوماتي ، ومسار أخضر يزرع في جدران المستشفيات شجر الاستدامة ، فيضيء بالطاقة النظيفة ، ويعيد تدوير مواردها ويقلل هدرها ، احترامًا للطبيعة والأجيال القادمة ، ومع هذه المسارات تنمو فروع أخرى تعطي لصورة المستشفيات اكتمالها ورونقها بالجودة وسلامة المرضى ومكافحة العدوى ، والاعتماد ضمانا للثقة ، وبالبحث العلمي النافذة الواسعة على الابتكار ، وبالشراكات والتؤامة مع الجامعات والمستشفيات والمراكز الطبية الدولية لبناء جسور التكامل مع العالم ، وبالتمويل المستدام الذي يعتبر أداة أساسية للاستمرارية والعدالة والتطوير ، وبالإعلام الصحي اليقظ ذلك الصوت الصادق الذي يشرح ويوعي ويحمي ، وعندما تلتقي هذه الخيوط جميعها ، تولد مستشفيات إنسانية تضع المريض في القلب لا في الهامش ، وتحمي البيئة التي تحتضن حياته ، وتُرسخ العدالة الصحية والاجتماعية بين جميع الناس ، وتمنح المجتمع شعورًا بالثقة والاطمئنان ، مستشفيات تكتب قصة جديدة للصحة في ليبيا ، حيث تتداخل الإنسانية مع العلم ، والرحمة مع الكفاءة ، والحق مع الواجب ، ليصبح العلاج ليس فقط شفاءً للجسد ، بل أيضًا طمأنينة للروح ، وثقة في الغد ، وإحساسًا عميقًا بالانتماء لوطن يحمي أبناءه ، وهكذا تتحول الرؤية إلى سردية حضارية ، تُروى بلسان الوطن وتُحفر في ذاكرته ، لتؤكد أن الصحة ليست سلعة تباع وتشترى ، بل هي حياة تُصان ، وكرامة تُحترم ، وأمان يُبنى ، وعدالة تُجسد ، وثقة تُرسخ ، وبيئة تُصان من أجل أجيال لم تولد بعد ، فعندما تستثمر العقول وتُبنى القدرات ، وتكوين الالاف من المتخصصين الأكفاء المهرة في جميع التخصصات ، وتتصل وتندمج الجامعات والمراكز البحثية بالمستشفيات ، وتُسخر ثروات البلاد في خدمة العلم والصحة والعدالة وصون حياة الإنسان ، ستكون أبعد من الحلم الوطني وأقوى من نداء للكرامة ، بل ملحمة إنسانية تكتبها ليبيا من جديد لتبرهن أن الحق في الصحة ليس وعداً مؤجلاً بل واقع يصنعه الليبيون بالإرادة والإصرار والعزيمة والحكمة ، ويتجاوزوا العبث والفوضى والسوق المفتوح ، وباعة شهادات التعليم الطبي الجائلين ، ولن يجعلوا صحة الناس سلعة ، والطب والتعليم الطبي تجارة .
د.علي المبروك أبوقرين

منشور له صلة

مشاركة ليبية بالمؤتمر العالمي الرابع عشر للرابطة الدولية لقضاة اللاجئين والهجرة في نيروبي

شهدت العاصمة الكينية نيروبي، خلال الفترة من 17 إلى 22 نوفمبر 2025، انعقاد المؤتمر العالمي…

4 أسابيع منذ

الرؤية الصحية الطويلة الأمد

د.علي المبروك أبوقرين هناك لحظة حرجة في تاريخ الأمم تتوقف فيها عقارب الساعة على سؤال…

شهر واحد منذ

الصحة التعليمية

هناك لحظة خفية تبدأ فيها الحكاية ، لحظة لا يسمعها أحد ، حين تنبض خلية…

شهر واحد منذ

الدور السيادي والنهضوي للقطاع الصحي

إن القطاع الصحي العام ليس مجرد مؤسسات تقدم العلاج أو تُدار بالموازنات السنوية ، بل…

شهر واحد منذ

المؤشرات الصحية

د.علي المبروك أبوقرينإن الأوطان لا تقاس بارتفاع مبانيها ولا بحجم موازناتها ولا بعدد قراراتها ،…

شهر واحد منذ

لماذا إسطنبول؟

جلال عثمان قد يتساءل البعض عن سبب اختيار مكان خارج ليبيا لانعقاد هذا الاجتماع التأسيسي…

شهر واحد منذ