كتاب الرائ

الصحة بين نفط يفيض وشفاء مفقود

كانت ليبيا قبل أن يتفجّر النفط من جوفها ، أرضا شاحبة تتلو على السماء حكايات الوجع والجوع والوباء ، وكان الطاعون والجدري والسل والكوليرا والحصبة وشلل الأطفال يطوفون أزقة المدن والقرى كأنهم أبناء المكان ، وكان الموت ضيفا لا يُستأذن ، يدخل البيوت خفية ويغادرها بثوب من دموع وأكفان ، ولم يكن هناك طب ولا تطبيب ، ولا قابلات مؤهلات ولا مستشفيات تُنير ليل الولادات الطويل ، 95% من الولادات كانت في المنازل ، والأطفال يموتون قبل أن يبلغوا الخامسة ، والأمهات يودعن الحياة في سبيل ميلاد لا يكتمل ، وكانت ليبيا فقيرة في المال والعلم ، لكن غنية بالصبر والرجاء ، ثم جاء النفط ، فانبجست معه ينابيع الرفاه والتعليم والصحة والعدل الاجتماعي ، وتغيرت ملامح الأرض والإنسان ، وشُيّدت المستشفيات ، وزُودت بأحدث التجهيزات ، وجاء الأطباء والممرضون من دول كثيرة ، والعلاج مجاني ومكفول بالدستور والقانون ، والحق في الصحة حقا مقدسا لا يُمس ، والمواطن يُعالج في الداخل والخارج دون تأخير ، والأدوية أصلية ، والكوادر مؤهلة ، والضمير يقظ ، والكرامة مصونة ، للأسف انقلبت المعادلة ، مع وفرة النفط ، والدستور لا يزال يكفل الصحة ، أصبح الشفاء نادرا ، والمريض الليبي لا يجد الدواء ولا الطبيب ولا الرحمة ، مع تضخم الموازنات ، وهدر الثروات ، تُترك المستشفيات كأجساد خاوية على عروشها ، والعلاج حلم بعيد كالسراب ، والدواء تجارة ، والوجع سوق مفتوح ، والناس تدفع من جيوبها ما هو حقها أصلًا ، ودخل مكون جديد على المنظومة الصحية هو الصدقات والتبرعات والمعونات المذلة ، واستجداء الحق في الصحة والحياة ، وكأن الصحة منحة وليست حق أصيل ومكفول ، وأُغرقت البلاد بأدويةٍ مغشوشة وبالشهاداتٍ الجائلة ، وغياب الضمير ، واختلط العام بالخاص ، وتداخلت الوظيفة مع المصلحة ، والمريض تحول زبونا يُقاس بالدينار لا بالإنسانية ، وانهارت القيم التي كانت تُعلي من قدسية المهنة ، وغابت العدالة الصحية في وطن غني بالنفط ، والحق في العلاج تحوّل إلى رفاهية ، والكرامة أصبحت ورقة تفاوض ، والفقر جعل الناس يقبلون بما لا يرتضوه وما كانوا ليقبلوه ، ويتعاطون دواءً لا يعرفون مصدره ، في وطن أغناه الله بالنفط يُفقره أبناءه بالصحة؟ فكيف لدستور يكرّس الحق أن يُغتاله الواقع ، وكيف لمجتمعٍ كان يداوي جراحه بالصبر أن يصبح جرحه هو النظام الصحي نفسه؟ ، لقد اختلت المعايير ، وتبددت البوصلة ، وغاب الوعي بأن الصحة ليست ترفًا ، بل أساس الوجود ، وأن كرامة الإنسان تبدأ من سريره الأبيض ، ومن يد تمتدّ إليه بالعلاج الناجع لا بالصدقة ، إن ما يحدث لا يمكن يكون صدفة ، بل فشلٌ ممنهج ، وصمت رسمي ، وتواطؤٌ يغتال الدستور والإنسان معا ، إنها جريمة أخلاقية ووطنية لا يُغفرها التاريخ ، والمؤكد إن الوطن لا يُبنى بالنفط ، ولا بالاقتصاد الصحي الطفيلي، ولا بنظريات الكاره لنا ، بل بالإنسان ، ولا تُقاس الحضارة بالمباني والموازنات ،بل بكرامة المريض على سرير العلاج ، وبضمير المعالج في لحظة القرار ، وبإرادة تُعيد للإنسان حقه في الصحة والحياة ، حقه الأصيل في أن يُشفى ، لا أن يُشترى .
د.علي المبروك أبوقرين

منشور له صلة

مشاركة ليبية بالمؤتمر العالمي الرابع عشر للرابطة الدولية لقضاة اللاجئين والهجرة في نيروبي

شهدت العاصمة الكينية نيروبي، خلال الفترة من 17 إلى 22 نوفمبر 2025، انعقاد المؤتمر العالمي…

4 أسابيع منذ

الرؤية الصحية الطويلة الأمد

د.علي المبروك أبوقرين هناك لحظة حرجة في تاريخ الأمم تتوقف فيها عقارب الساعة على سؤال…

4 أسابيع منذ

الصحة التعليمية

هناك لحظة خفية تبدأ فيها الحكاية ، لحظة لا يسمعها أحد ، حين تنبض خلية…

شهر واحد منذ

الدور السيادي والنهضوي للقطاع الصحي

إن القطاع الصحي العام ليس مجرد مؤسسات تقدم العلاج أو تُدار بالموازنات السنوية ، بل…

شهر واحد منذ

المؤشرات الصحية

د.علي المبروك أبوقرينإن الأوطان لا تقاس بارتفاع مبانيها ولا بحجم موازناتها ولا بعدد قراراتها ،…

شهر واحد منذ

لماذا إسطنبول؟

جلال عثمان قد يتساءل البعض عن سبب اختيار مكان خارج ليبيا لانعقاد هذا الاجتماع التأسيسي…

شهر واحد منذ