إن القطاع الصحي العام ليس مجرد مؤسسات تقدم العلاج أو تُدار بالموازنات السنوية ، بل هو درع الأمة الصحي ، وعقلها الوقائي ، وذاكرتها الطبية ، وخط الدفاع الأول والأخير عن الوجود الإنساني ، فوظيفته لا تبدأ عند أبواب المستشفيات ولا تنتهي عند شفاء مريض ، إنما تمتد جذورها لتلامس عمق الحياة الفردية والجماعية ، وتصنع أثرا مستمرا يعبر الأجيال ، فالقطاع العام هو الذي يحمل على عاتقه حماية الإنسان منذ أن يكون فكرة داخل رحم أمه ، وحتى بعد أن يغادر الحياة تاركا إرثا صحيا ومعرفيا وإحصائيا يُسهم في حماية الأحياء وصياغة مستقبلهم. إنه منظومة وجودية تتكامل فيها الوقاية والرعاية والعلاج والتأهيل والبحث العلمي والسياسات والحوكمة والابتكار والاستشراف ، لا منظومة خدمات طبية مجتزأة أو ردود فعل طارئة ، فمن مهامه الكبرى تعزيز الصحة وتحسين جودة الحياة ، وبناء مجتمع واع وقادر على تبني السلوكيات الصحية والممارسات الوقائية ، وتحويل المعرفة الصحية إلى ثقافة شعبية راسخة ، وهو المعني بتأمين التعليم الطبي الراقي والتدريب السريري المنهجي ، وتكوين كوادر صحية مؤهلة علميا ومهاريا وقيميا وأخلاقيا ، وصولاً إلى الاكتفاء الوطني في الكفاءات الصحية من أطباء وتمريض وفنيين وإداريين وباحثين وخبراء سياسات صحية ، وفي عالم تتسارع فيه الأمراض المستجدة والتهديدات البيولوجية والتغيرات المناخية والجائحات ، لا يملك الشعب إلا قطاعا صحيا عاما قادرا على الاستعداد والاستجابة والصمود والتعافي ، لا قطاعا يعتمد على السوق ، ولا قرارات تُدار على أساس العرض والطلب ، ولا مصيرا صحيا مربوطا بالاستيراد أو عقود الشركات العابرة للحدود ، فالقطاع الصحي العام مسؤول عن تأمين الدواء والمستلزمات والمخابر والتجهيزات والتقنيات واللقاحات ، وبناء منظومة إنتاجية معرفية وصيدلانية وتقنية وصناعية تجعل الاكتفاء الذاتي الصحي خيارا استراتيجيا لا رفاهية سياسية . وهذا لا يتحقق إلا بامتلاك المعرفة لا استهلاكها ، وصناعتها لا استيرادها ، وتطويرها لا استئجارها ، ومسؤولياته لا تتوقف عند علاج الأمراض ، بل تمتد نحو منعها واستئصالها وتحييد مخاطرها ، وتحويل البلاد من خريطة انتشار الأمراض إلى خريطة الصحة والوقاية والعمر المديد والحياة المنتجة . فهو الذي يعمل في زمن السلم بقدر ما يقود في زمن الخطر ، وزمن الكوارث الطبيعية ، والحروب والصراعات ، والأوبئة، والفيضانات ، والتصحر ، والهجرة ، والسموم البيئية ، والمخاطر المناخية ، وعلى هذا القطاع أن يبني بنية معرفية متراكمة لا تتحقق إلا عبر البحث العلمي المستمر ، والنشر الطبي المسؤول ، وتحديث البروتوكولات ، والالتزام بالأدلة الإكلينيكية المبنية على البراهين ، والتقييم المستمر للنتائج ، والمراجعة الدورية للممارسات ، بما يجعل السياسة الصحية شقيقة للعلم لا للبيروقراطية ، إنه قطاع الأمة لا قطاع الحكومة فقط ، وقطاع المستقبل وليس قطاع اللحظة ، وقطاع الإنسان لا قطاع النظام . وإن الأمة التي لا تمتلك قطاعا صحيا عاما قويا ، مستقلاً علميا ، منتجا للمعرفة ، قادرا على اتخاذ القرار ، ستبقى رهينة الأسواق ورؤوس الأموال والمصالح العابرة للحدود ، فالقطاع الصحي العام هو مصد الحياة ، ومخزون الأمن الوطني ، ومرتكز السيادة الصحية ، وبه تُصان الكرامة ، وتُحمى الحقوق ، وتُبنى التنمية المستدامة ، وتُحفظ الأجيال من الهشاشة الصحية والفقر المرضي ، إنه ليس خدمة بل رسالة ، وليس نظاما بل قدرا حضاريا ، وليس خيارا بل ضرورة وجودية ، وحتى لا تبقى هذه الرؤية الكبيرة مجرد حلم إنساني أو خطاب أخلاقي أو حالة وجدانية تُتداول في الندوات والوثائق الرسمية ، فإن القطاع الصحي العام يحتاج إلى إدارة مؤسسية احترافية تقودها الكفاءة والخبرة والجدارة والعلم والضمير ، وليس المصالح الضيقة أو النفوذ أو القرابة أو المحاباة ، فلا يشغل أي منصب قيادي أو تدريبي أو أكاديمي أو رقابي أو مهني إلا من هو جدير به علما ومهارة وخبرة ومسؤولية ، ولا من هو قريبا من السلطة أو النفوذ أو المزاج العام ، ولا يمكن للقطاع الصحي أن يحقق هدفه ما لم يكن قائما على الشفافية والحوكمة الرشيدة والمساءلة المستقلة ، والتشريعات الصارمة ، والرقابة المؤسسية الدائمة ، وتحصين القرار الصحي من الفساد والاستغلال والمصالح الشخصية والجهوية والمحاصصة ، فالصحة ليست موردا اقتصاديا ولا مساحة استثمارية ولا وسيلة نفوذ سياسي أو اجتماعي ، بل حق إنساني وحضاري مقدس لا يُدار إلا بأعلى قيم النزاهة والعدالة والجودة ، وحتى يكون القطاع الصحي العام رائدا لا تابعا ، ومتقدما لا متأخرا ، ومبادرا لا مستجيبا فقط ، يجب أن يكون سابقا ومتجاوزا لتوقعات الناس ورغباتهم وطموحاتهم في مستوى الخدمات والجودة والنتائج ، وأن يوفر تجربة صحية متكاملة تحترم القيمة الإنسانية والخصوصية والرفاهية والفندقة الطبية ، إلى جانب الرقمنة الشاملة ، والميكنة والسجلات الإلكترونية الذكية ، والذكاء الاصطناعي ، والطب الدقيق ، والتطبيب عن بُعد ، والمنصات الرقمية التفاعلية ، والتحليلات التنبؤية الوقائية ، ليكون أكثر تطورا من تكنولوجيا العصر وطب المستقبل وعلوم المعرفة التطبيقية لا مجرد ملاحق لها أو متأخر عنها ، ولتحقيق ذلك يجب تخصيص موازنات صحية كبيرة ومستقرة وطويلة الأمد كما في الدول المتقدمة علميا وبحثيا وتكنولوجيا ، بحيث لا يكون الإنفاق مجرد بند تشغيل وصيانة ، بل استثمارا بحثيا وإنتاجيا وابتكاريا واستراتيجيا قادرا على خلق اكتفاء ذاتي في المعرفة والدواء والتجهيزات والقدرات البشرية والبحث العلمي والابتكار الطبي . كما يجب إنصاف الكفاءات الوطنية بأجور عادلة محفزة ، تحفظ كرامتهم العلمية والمهنية ، وتمنع هجرتهم أو استنزافهم ، وتحولهم من طاقة بشرية عاملة إلى عقول تطوير مستدام ، عندها فقط يصبح القطاع الصحي العام قيمة وطنية ، وسيادة معرفية ، وأمنا صحيا ، ودرعا اجتماعيا، ومؤسسة حياة لا مؤسسة مرض ، ويصبح الإنسان في هذا الوطن مطمئنا إلى أن صحته ليست رهينة سوق ، ولا قدرا للمساومة ، ولا رقم
شهدت العاصمة الكينية نيروبي، خلال الفترة من 17 إلى 22 نوفمبر 2025، انعقاد المؤتمر العالمي…
د.علي المبروك أبوقرين هناك لحظة حرجة في تاريخ الأمم تتوقف فيها عقارب الساعة على سؤال…
د.علي المبروك أبوقرينإن الأوطان لا تقاس بارتفاع مبانيها ولا بحجم موازناتها ولا بعدد قراراتها ،…
جلال عثمان قد يتساءل البعض عن سبب اختيار مكان خارج ليبيا لانعقاد هذا الاجتماع التأسيسي…
د.علي المبروك أبوقرين منذ أن وُجد الإنسان على وجه الأرض ، كانت الصحة هبة الوجود…