كتاب الرائ

إنهيار منظومة التعليم الطبي وأثره على الصحة العامة ..

د.علي المبروك أبوقرين

كان التعليم الطبي والتدريب السريري في جوهره علمًا له قواعده وأصوله وأخلاقياته ، تقوم عليه منظومات دقيقة في التخطيط والتنفيذ ، وتضبطه معايير صارمة في الجامعات وكليات الطب حول العالم . لكل كلية طب مواصفاتها التي لا تُقبل المساومة مبانٍ مؤهلة ،  ومعامل مجهزة ، ومناهج علمية متكاملة ، وأقسام متخصصة ، وهيكل تنظيمي واضح ، وأعضاء هيئة تدريس ذوو تأهيل علمي ومهني رفيع ، يخضعون لقوانين ولوائح تحفظ جودة التعليم وتضمن المخرجات الأكاديمية والمهنية المطلوبة . فالتعليم الطبي لا يُبنى بالارتجال ، ولا يُدار بالمصادفة ، بل هو منظومة بنيوية علمية متكاملة تبدأ من قاعات الدروس النظرية إلى أروقة المستشفيات الجامعية ، حيث تتوحد العملية التعليمية والسريرية والإدارية والمالية في كيان واحد متكامل ، ومن ثم فإن أي تعليم للطب خارج هذا الإطار يفقد مشروعيته ومضمونه ، مهما اتخذ من مسميات أو غطاءات شكلية سواء كانت عامة أو أهلية أو خاصة أو مجالس تدريب أو أكاديميات ، ولأن الطب علم التطبيق بامتياز ، فإن غياب المستشفيات الجامعية والتعليمية يعني في جوهره غياب التعليم الطبي ذاته ، ويجعل كل ما يُمارس خارجها عبثًا علميًا وخطرًا اجتماعيًا وأخلاقيًا ، ولكن الواقع الليبي اليوم يكشف عن فوضى عارمة تضرب هذا الأساس. فقد انتشرت كليات طب كثيرة لا تستوفي أدنى الشروط العلمية أو البنائية ، وتعاني من عجز حاد في التجهيزات وأعضاء هيئة التدريس ، حتى غدت ساحات لتجارب عشوائية لا تُخرّج أطباء بل تُنتج ضحايا لمنظومة متهالكة ،  وفي ظل هذا الفراغ ، ظهرت طفيليات التعليم مجالس تدريب وهمية ، ومعاهد وشركات وأكاديميات خاصة تحمل أسماء براقة وشعارات رنانة ، لكنها في جوهرها مشاريع تجارية تبيع الوهم تحت لافتة التعليم والتأهيل ، وهكذا تحوّل الطب من رسالة إلى سلعة ، ومن علم إلى سوق ، ومن إعداد كوادر مؤهلة إلى إنتاج عناوين زائفة وشهادات بلا وزن ولا اعتماد ، وإن ما يجري اليوم في ليبيا هو مسار تدميري ممنهج للقطاعين الصحي والتعليمي معًا ، يهدد مستقبل الأجيال وصحة المجتمع ، ويفتح الباب لفوضى أخطر من أن تُحتوى ، ولذلك لا بد من وقفة وطنية جادة تعيد ضبط البوصلة ، وتفرض الانضباط الأكاديمي ، وتستعيد الاعتراف الدولي والاحترام العلمي الذي لا يقوم إلا على أساس الكفاءة ، لا على تجارة الشهادات أو التزييف الأكاديمي ، إن الطبيب ليس مجرد حامل شهادة ، بل هو حامل رسالة الحياة ذاتها ، والمرآة التي تعكس وعي المجتمع وضميره ، فحين ينهض التعليم الطبي تنهض معه قيم الرحمة والعلم والعدل ، وحين يفسد ، يفسد كل ما يتصل بالحياة من معنى ومسؤولية ، والطبيب ليس كائنًا معزولًا ، بل ثمرة بيئة معرفية ورعاية دولة تؤمن بأن الاستثمار في الإنسان هو أسمى أشكال التنمية ، وأن المعرفة ليست رفاهية بل هي سياج الوجود الإنساني ذاته ، فالدولة التي تستهين بالعلم تستهين بإنسانها ، وتُسلِّم مصيرها للجهل والعشوائية والمرض

وحين تتخلى الدولة عن مسؤوليتها في بناء المعرفة ، يتحول الطب إلى مهنة بلا روح ، والعلم إلى تجارة بلا ضمير ، والإنسان إلى رقمٍ في معادلة لا إنسانية ، أما حين تحتضن الدولة المعرفة وتكرم الطبيب وتقدّس الإنسان ، فإنها تكتب لنفسها الخلود ، لأن الأمم لا تُقاس بما تملك من ثروة ، بل بما تزرع من وعي ، وتبني من عقل ، وتُخرج من طبيب يعرف أن شفاء الجسد يبدأ من نقاء الضمير .

ليس رفاهية أن تستثمر الدولة في كليات الطب والمستشفيات الجامعية ، بل هو استثمار في بقاء الأمة وصون كرامتها ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى